لست رياضيا ضليعا، ولا ولوعا بكرة القدم حريصا على حضور المباريات والتسابق على المقاعد الأولى في المدرجات، ولذلك – في خاطري كما سبق أن ذكرت ذلك سابقا- سبب قديم ووجيه ذكرته فيما سبق من كتاباتي. لكني هذه المرة تفاعلت أيما تفاعل مع ما وقع في المنديال الذي فرض نفسه ودعاني كما كل منطقي ومنصف، لأقف أمام سلوك لاعبي المنتخب الهولندي الرائع و الجميل بكل احترام وتقدير،واعتبره درساً مجانياً للاعبينا وفرقنا والمنتخبات العربية قاطبة لعلنا نستفيد منه، وأتمنى ألا يعتبر البعض-كعادة المتخلفين- ما سأكتبه عن الغرب أنه تمجيد للأوروبيين.. إنها الحقيقة، فالمنتخب الهولندي كان يمني نفسه بالظفر بكأس العالم كباقي المشاركين في اللعبة، لكن الحظ لم يحالفه لا لتقصير من لاعبيه أو لعيب في مدربهم، لكنها لعبة القدم تأتي بالمفاجآت الغربية أعطت الفوز للمنتخب الإسباني المستحق أيضا، إلا أن موقف الفريق الهولندي كان رائعا جدا حين قدم لاعبوه تهنئة الفوز للإسبان مباشرة بعد إعلان نهاية المباراة، والأروع من ذلك أنهم رغم الضغط النفسي الذي عاشوه طيلة المباراة، وحصول معظم اللاعبين على إنذارات صفراء وحصول مدافعهم على البطاقة الحمراء و غضبهم الجام على حكم المباراة، لم ينسو المبادئ و القيم الرياضية، فوقفوا جميعهم تحت منصة التتويج في انتظار المنتخب الإسباني ليتبادلوا مع اللاعبين تهنئة التتويج في منظر يسعد العين و ينم عن ثقافة راقية وأخلاق سامية نتمنى أن تصيبنا عدواها. الأخلاق في كل شيئ، وقبل كل شيء، قبل المتعة الكروية، وتكتيكيها وتقنيتيها، وقبل لمسات اللاعب الفلاني الرائعة، وتمريرات المهاجم العلاني الهادفة، فهي منارة كل لاعب نحو الصواب، من دونها تكون اللعبة والإنسان ناقصين. ومن أجل ذلك أسف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للوجه الكارتي الذي ظهر به منتخب بلاده في هذا المونديال، وأكد في برنامج على قناة التلفزيون الثانية، أنه هو من طلب رحيل المسؤولين. وقال: الوجه الذي قدمه منتخب فرنسا في جنوب إفريقيا.. كارتي. أنا قلت: يجب أن يرحل المسؤولون. ها هم رحلوا الآن ولن نحرجهم في شيء. واللاعبون يجب ألا يحصلوا على المكافآت ولم يحصلوا عليها بالفعل. ولما سُئل عن استقباله للمهاجم تييري هنري فور عودة المنتخب، وإرسال سيارة خاصة إلى المطار لإحضاره إلى قصر الاليزيه أجاب قائلا: لقد ارتدى هنري قميص منتخب فرنسا 124 مرة بكل إخلاص. إنه اللاعب الذي سجل اكبر عدد من الأهداف في تاريخ المنتخب، وهذا له حساباته. و لسنا ننسى أن علماء الاجتماع و كذا الأنثربولوجيين يعتبرون أن الكثير من المناسبات الحاشدة وخاصة منها كرة القدم عند الشعوب هي تلك المساحة الشاسعة التي تظهر فيها و بكل وضوح القيم الثقافية و الضوابط التي تحكم بشكل غير معلن العديد من المجتمعات. فكرة القدم تكشف بوضوح مدهش المفاهيم الشائعة للشعب الذي يمارسها. فعند متابعة مباراة لفرق أوروبية بشكل عام، ألمانيا مثلا، ندرك أن هؤلاء اللاعبين من بلد يحترم العقل ويبارك السرعة ويقدس الإنتاج، فيخطط ويصمم ويبتكر.لأن لاعبيه يمارسون الكرة بإيقاع يلائم المفاهيم التي استقرت في بلدهم منذ عقود طويلة حتى صارت جزءاً من سلوكهم اليومي المعتاد. أما إذا كانت المباراة لفرق من أمريكا اللاتينية، البرازيل مثلا، فسنعرف على الفور أن هذا الفريق أتى من بلد يعشق الفرح ويطرب للإيقاع، ويحتفل بالحياة. فاللاعبون يتحركون في الملعب وكأنهم يعزفون الموسيقى، فيمررون الكرة بأقدام راقصة، وينتقلون من موقع إلى آخر بروح وثابة، ويحرزون الأهداف بعبارات كروية شعرية، الأمر الذي يؤكد أن اللاعب البرازيلي يتعامل مع الكرة وكأنها معشوقته الفاتنة، يدللها ويحنو عليها ويراقصها ويحتضنها. وحين يقذفها برشاقة لتعانق شباك الخصم يطير فرحاً كعاشق اتحد مع محبوبته قلباً وجسداً حتى وصل إلى ذروة الحبور. هكذا هو حال الدول المتحضرة التي سحقت المستحيل وألغته من قاموس وعيها وسبل نظرها ومعايير رؤيتها بعد أن حققت ثورة العقول الفعالة المؤثرة في صناعة الحياة المشرقة بأخلاقية الإبداعية المتعقلة. .فكم نحن بعيدون كل البعد عن هذه المواقف و تلك المشاهد ولا نجيد عملية الفصل بين داخل الملعب وخارجه حيث نطلق لعواطفنا وانفعالاتنا ومشاعرنا السيئة المبلدة للعقول الفاعلة، لتعيش هياجات عاطفية انفعالية متواصلة ذات لهيب متأجج يسحق العقول ويقبر الأفكار ويعلن الثورة الكروية العاطفية والاستثمار في الانفعالات والمشاعر السلبية، وتسخير القدرات الهائلة لتسويغ إرادات العواطف المترعة بالسوء، حتى تحولت بذلك كرة القدم عندنا إلى جحيم، وملاعبنا إلى سعير، وكل ما يدور فيها وحولها، عبارة عن دسائس ومؤامرات وجل فرقها ومنتخباتها ترقد في قيعان مستنقعات عفنة مرهونة بقوانين الافتراس الأعمى المبلدة للعبة والمانعة للإبداع والابتكار والتحرر والتجديد، ولا تسمع من مسؤوليها وهواتها إلا البكاء والنواح والحنين لمنجزات السالفين الغابرين.. فكيف أُآخذ، مع كل هذا، على تمجيد أمم هكذا هو حالها في صناعة الحياة المشرقة بأخلاقها التي سحقت المستحيل وألغته من قاموس وعيها وسبل نظرها ومعايير رؤيتها حتى مع لعبة كرة القدم. فهل من يقظة كروية عاقلة ذات إنجازات أخلاقية حضارية متقدمة؟!