انعقدت مؤخرا بالرباط ندوة عن النزاعات العربية نظمتها مؤسسة الأبيض المتوسط الجديد وقد دعي ذ. محمد العربي المساري لافتتاحها بمحاضرة حول المهام الجديدة للعمل العربي المشترك فقدم عرضا تضمن دعوة إلى التعاون العربي في ميدان التقنية الرقمية باعتباره فرصة متاحة بكل اطمئنان للحاق بركب المتقدمين. وهدا هو نص العرض المشار إليه: هناك مجال جديد للعمل الاقتصادي والثقافي والسياسي خلقته التطورات التكنولوجية التي عرفها العالم في السنين الأخيرة، يمكن أن يكون فرصة لتضافر الجهود فيما بين الأقطار العربية لربح رهان التقدم، وأعني مجال تكنولوجيا الاتصالات والإعلام. وهناك عاملان يبعثان على التفكير في ذلك. العامل الأول هو أن هذا الفرع من الصناعة أصبح يمثل فرصة أمام كل شعوب الأرض لتنمية اقتصادية سريعة، كما ورد في دراسة مضمنة في طبعة هذه السنة للتقرير العالمي عن تكنولوجيا الاتصال لسنتي 2009 /2010 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. وقد ورد في الفصل الخامس من ذلك التقرير أن قطاع تيكنولوجيا الاتصالات والإعلام ICT بما فيها الخدمات الاتصالاتية، وإنتاج الحواسب والبرمجيات، و صنع العتاد الإلكتروني، أخذ يقوم بدور ذي أهمية متزايدة في الاقتصاد العالمي. ومصداقا لذلك جاء في التقرير المشار إليه أنه فيما بين سنة 2003 و2008 بلغت نسبة مساهمة هذا القطاع في الإنتاج العالمي الخام 5.% وفي سنة 2008 وصلت تلك النسبة إلى 5.4 %. وذكر التقرير المشار إليه أنه من المنتظر أن ترتفع حصة قطاع الاتصالات والإعلام في الإنتاج العالمي الخام إلى 8.7 % في أفق سنة 2020. وبفضل الحجم المتنامي لهذا القطاع وبفضل طبيعة تدخلاته، كان له أيضا دور في تنمية مجالات أخرى إلى جانب الاقتصاد وذلك في التعليم والصحة وخدمات اجتماعية أخرى. وأوضحت دراسة لمكتب الدراسات ماك كينسي أنه من المنتظر أن يساهم تطور هذا القطاع في تقليص حوالي 15 % من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في أفق سنة 2020. هذا من حيث الأهمية التي يمثلها القطاع المذكور في النمو الاقتصادي حاضرا ومستقبلا، بما ينطوي ذلك من فوائد مباشرة محققة لنا ولسائر الشعوب القادرة على ربح رهان التقدم. والعامل الثاني الذي أدى بي إلى التفكير في اعتباره مجالا مهما للعمل العربي المشترك هو أن البلدان العربية بالذات المؤهلة بما حققته من تقدم في مضمار تيكنولوجيا الاتصال والإعلام، مرشحة لنيل مكانة مرموقة، من بين البلدان الجاهزة للانخراط في عالم الاتصال والإعلام. وقد سبق لي، في ندوة حول موضوع قريب من هذا انعقدت في أصيلة منذ عامين، أن أوردت أرقاما كان تقرير دافوس لتلك السنة قد ذكرها ومفادها أن أعلى نمو في عدد مستخدمي الأنترنيت يقع في الشرق الأوسط، وذلك بنسبة 600 في المائة. وهذا المعطي كان يمثل إذ ذاك ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي للنمو. وكانت الخلاصة التي خرجت بها إذ ذاك استنادا إلى معطيات مؤكدة هي أن هناك فرصة للحاق بركب المتقدمين و أنه من مصلحة المغرب ألا يضع كل بيضه في سلة واحدة، وطرحت الخيار العربي كطريق مفتوحة. والجدير بالذكر أن الدول العشرة الأولى في تصنيف دافوس سنة بعد أخرى منذ تسع سنوات من حيث التقدم في تطبيق تيكنولوجيا الاتصال والإعلام توجد من بينها دول صغيرة أو صغيرة جدا ابتداء من السويد، وسنغفورة التي تليها في الترتيب، وفنلندا وهونغ كونغ والنرويج. وتوجد في كوكبة العشر الأوائل دول قليلة ذات حجم كبير مثل الولاياتالمتحدة الأميركية التي تحتل الرتبة الخامسة، وكندا وهي السابعة في اللائحة. ويجب التذكير هنا بما لوح به د. المهدي المنجرة منذ عقدين من أن الدراسات المستقبلية مجمعة على أن هناك فرصة أمام الشعوب الفقيرة للانخراط في الموجة الصناعية الحالية التي تقوم على اللا مادة بطريقة أكثر يسرا مما حدث لدى الانتقال إلى الصناعة إن تكنولوجيا الاتصال قد صنعت عالما جديدا، يتجلى في واقع متحرك يتقدم بإيقاع متسارع. وهناك نتيجة أولية لتلك الوتيرة وهي أن الحقائق المرتبطة بالتطور التكنولوجي تعكس وجود تقلبات حادة أحيانا، بسبب سهولة الفرص المتاحة لتحقيق اللحاق بالركب العالمي، وبسبب الطبيعة التنافسية التي تكتنف مسلسل الالتحاق بركب المتقدمين. ويتم ذلك على نحو يفيد أنه لن يبقى في المؤخرة إلا من قرر ذلك، بتفريطه في الفرصة وبعدم الطاعة للقواعد التي تضبط المسلسل. و التطور الحاصل في تيكنولوجيا الاتصال والإعلام يعتبر ظاهرة عارمة تداهم الجميع و لا تترك أحدا خارج منطقة التغطية. وبينما كانت الأمم المتحدة قد حددت مدة عشر سنوات لتقليص الفجوة التكنولوجية بين الجنوب والشمال، أعلن منذ ثلاث سنوات أن الفجوة كانت وقتئذ قد تقلصت بسرعة تخطت التوقعات المبرمجة. وبسبب كل ذلك، أي بسبب مدى انتشار تيكنولوجيا الاتصال والإعلام، وبسبب السرعة التي تم بها ذلك الانتشار، والمفعول الملموس الذي أحدثه كل ذلك على أرض الواقع، فإن البشرية جمعاء توجد في فترة الانتقال الذي يشوبه كثير من الاضطراب، وهو انتقال من وضع كانت فيه البشرية حتى الأمس القريب، من الناحية الاقتصادية والسياسية والثقافية، إلى وضع آخر لم يتم استواؤه بعد، ولكنه فرض تغيير كثير من الاقتناعات التي كانت تبدو راسخة ولا محيد عنها، بينما فرضت تكنولوجيا الاتصال طقوسا جديدة في التعامل بين الأفراد والجماعات وخلقت وضعا جديدا على الصعيد الدولي. وفي المغرب انتقلنا من 61 ألف مشترك في الأنترنيت سنة 2003 إلى 2.1 مليون في 2009. وبلغ حجم المعاملات في قطاع الاتصالات 33 مليار درهم. وما أصبحت تغنمه خزينة الدولة من وراء انتشار استعمال تيكنولوجيا الاتصال مدخولا ذا بال، فضلا عن مناصب الشغل التي يحدثها. وبطبيعة الحال ليست شروط اللحاق بالركب العالمي متساوية أمام جميع الدول. والتأهل للحاق بذلك الركب يقتضي أولا التسلح بالإمكانات المعرفية والمادية، وهذا ما يملي على كل بلد عربي أن يصطف في معسكر القادرين على فرض أنفسهم في العالم الجديد الذي يتكون. ومن الواضح أن هناك لدى المجموعة العربية إرادة، مستندة إلى مؤهلات من شأنها أن تمكن من الوصول إلى نتيجة مشرفة. و ينطوي هذا التوجه الحثيث للمجموعة العربية في اتجاه اكتساب المهارات المعلوماتية، علي معطى مهم، وهو أن السوق العربية للمعلوميات مبشرة بالازدهار. وقد نشر تقرير منذ سنتين ("الشرق الأوسط"، 10/8/2008) حول مستقبل الاستثمار في تكنولوجيا المعلومات بمختلف مناطق العالم، ورد فيه أن دول مجلس التعاون الخليجي، وحدها تمثل 22.6 في المائة من النفقات المرصودة لتقنية المعلومات من مجموع الشرق الأوسط وإفريقيا. وهذا مبلغ مهم يثير انتباه منتجي تيكونولجيا الاتصال والإعلام. وكان ذلك التقرير قد توقع أن تتصدر المشهد في الفترة ما بين 2007 و2011 أربع دول في المنطقة، من حيث الاستثمار في القطاع، هي مصر ب 13.1 %، والسعودية ب 12.8 %، والكويت ب 11.9 %، والإمارات ب 11.3 % وقد تأكد أن تلك التوقعات لم تكن مغالية، بل تحققت كلها. وتضمن تقرير السنة الحالية لمنتدى دافوس في الفصل الأول منه (ص 26) أنه لأول مرة منذ الأخذ بهذا التقرير أزيحت إسرائيل عن مكانة الريادة في منطقة الشرق الأوسط، وتراجعت ثلاث درجات إلى الرتبة 28 في لائحة هذه السنة التي تضم 133 دولة، بعد أن كانت تحتل الرتبة 25 في جدول سنتي 8/9 ( من بين 134 دولة) والرتبة 18 في جدول سنتي 7/8 ( من بين 125 دولة). واحتلت دولة الإمارت المكان الأول من بين الدول العربية إذ أن ترتيبها في هذه السنة هو 23، تليها البحرين (الرتبة 29 ) وقطر ( الرتبة 30) والسعودية (الرتبة 38) وتونس (الرتبة 39) والأردن (الرتبة 44). وبهذه المجموعة تقفل لائحة الدول التي حصلت على معدل يفوق 4 نقط في مؤشر الجاهزيةIndex of Readiness . . وأريد بإيراد هذه المعطيات، أن أعيد القول، إن الاصطفاف في المجموعة العربية سيمكننا في المغرب مثلا من الاستفادة من مزايا التقدم الذي سيجلبه الاستثمار في تطوير تقنية المعلومات في هذه المنطقة. وكذلك نظرا لما تمثله السوق العربية بالنسبة للمنتجين. وهذا شيء لا تدخله في الحساب بعض جماعات في البيضاء والرباط، ينحصر تفكيرها في خانة واحدة. إن اهتمام المشتغلين بالبحث العلمي في ميدان تيكنولوجيا الاتصالات والإعلام بالمنطقة العربية، لمن شأنه أن يجعل الاستفادة محققة من لدن المغرب وأي بلد عربي آخر يولي الانتباه اللازم لمسألة التطور التيكنولوجي، ومن البديهي أن ترتفع الوتيرة في حالة ضم الجهود في نطاق تعاون نزيه ومربح لكل الأطراف. و قال مسؤولون في شركتي ميكروسوفت وغوغل إن زيادة دمج قدرات استخدام اللغة العربية في الانترنت وهياكل تقنية أخرى سيتيح للملايين فرصة التواصل مع العالم الرقمي. وهم حينما يدلون بهذه التأكيدات لا يصنعون ذلك بدافع مراعاة اتساع السوق، بل أيضا لأن العربية لغة صقلتها قرون من الاستعمال في أرقى المستويات، وهي ببنياتها ومميزاتها تتعامل بكيفية جيدة مع منطق الهندسة الرقمية. وقال كريج موندي، مدير الأبحاث و الاستراتيجيا في ميكروسوفط إن استخدام الأنترنيت في العالم العربي ينمو منذ عام 2000 بإيقاع أسرع من أي مكان آخر. وهذا هو تقدير صادر عن شركة تحسب مداخيلها وتدرس الأسواق، وليس الدافع لها هو مجاملة عمرو موسى. إلا أن هذا يجب ألا يخفي جوانب سلبية مثل ضآلة الحضور العربي في الشبكة. إذ يساهم المحتوى العربي بأقل من واحد بالمائة من الإجمالي العالمي، في حين أن الناطقين بالعربية يشكلون خمسة بالمائة من سكان العالم. ومن المقارنات الجديرة بالاعتبار أن عدد الكلمات في البوابة العربية لموسوعة ويكيبيديا هو أقل مما هو في الموقع الكاطالونيين في إسبانيا، كما حرص على القول وائل غنيم مدير التسويق الاقليمي في غوغل . وهذا مما يبين أن الأقطار العربية إذا ما اجتمعت في مجهود مشترك، يمكن أن تحسن الأوضاع كثيرا. ولا يسع المهتمين إلا أن يسجلوا أن هناك مزيدا من التجارة الالكترونية في المنطقة، ومزيدا من الناشرين، ومزيدا من المواقع الجديدة. وبلغ الإنفاق على الإعلان عبر الانترنت في المنطقة العربية نحو 90 مليون دولار في 2009 مرتفعا من 66.5 مليون دولار في 2008 ولا يفوت المسؤولين في غوغل وميكروسوفت أن يسجلوا أن العربية – والمقصود هنا اللغة الفصحى وليست الدارجة التي يروج لها عبثا هذه الأيام - ضمن اللغات العشر الأولى الجديرة بالاهتمام. وفي أواخر العام الماضي سجلت مصر والسعودية أول أسماء نطاق تكتب بالحرف العربي بعدما صوتت هيئة الانترنت للاسماء والارقام المخصصة (ايكان) ICCAN في نوفمبر الماضي لصالح السماح باستخدام الحروف غير اللاتينية في عناوين المواقع الالكترونية، وقد بدا العمل بذلك في كل مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة. وهذا من المكاسب التي تضع اللغة العربية في مصاف اللغات التي تؤخذ في الاعتبار لدى المنتجين. وكل التقدم الحاصل يعني الاستفادة من كل المزايا التي تتيحها تكنولوجيا الاتصال والإعلام. وبالأمس فقط (أي 24 يونيو) طرح في السوق العالمية جهاز هاتف ذكي مزود بعدد من القواميس وبرامج لتصوير الوثائق عن بعد وتخزينها . وأعلن أنه في مرحلة أولى سيكون هذا الهاتف الذكي متاحا لعدد محدود من المناطق بما فيها المنطقة التي تستعمل اللغة العربية. ويمكن لجهاز إي فون 4 أن يخزن 2160 برنامجا. ومن جهة أخرى فإن كفاءة البلدان العربية آخذة في الارتفاع، وهذا ما أقرت به شركة ديل حينما قررت في أوائل الشهر الحالي أن تقدم على استثمار في المغرب قدره 10 ملايين دولار لإقامة مركز للأعمال يغطي إفريقيا وأوربا والشرق الأوسط. إن كل ما تقدم لمن شأنه أن يوجه الأذهان إلى الإقدام على الاستثمار المنسق في مجال جديد للعمل العربي المشترك، والحال أن هناك اقتناعا عاما بأن الاستثمار في تكنولوجيا الاتصالات والإعلام يعتبر أولوية في السياسات العامة لمختلف الدول العربية لأنه يعتبر اختيارا حيويا يمس مجالا ثقافيا ولكنه أيضا انعكاسات حميدة على النشاط الاقتصادي والاجتماعي لبلدان المنطقة. 25 يونيو 2010