ولكن من سيتولى بالفعل تحقيق الإصلاح التعليمي في المغرب ويضطلع بمتطلباته ؟ ومن هي الصفوة المختارة من المتعلمين والمثقفين والمجربين والمدركين لخطورة تراجع القطاع التربوي، ومطالب الأمن التعليمي. وهل يمكن لهذه الشريحة التي يرشحها علمها وفهمها وتجربتها أن تستمر في القيادة في هذا الميدان ؟ وكيف يمكن لها أن تفيدنا ، وهل ستكون واثقة من قيادتنا للقيام بهذه المسؤولية الجسيمة بصدق وإخلاص وكفاية ؟ "( ... ويشكل الإصلاح القويم لنظم التربية والتعليم والتكوين، المسار الحاسم لرفع التحدي التنموي. فعلى الجميع أن يستشعر أن الأمر لا يتعلق بمجرد إصلاح قطاعي، وإنما بمعركة مصيرية لرفع التحدي الحيوي. سبيلنا إلى ذلك الارتقاء بالبحث والابتكار وتأهيل الموارد البشرية، التي هي رصيدنا الأساسي لترسيخ تكافؤ الفرص، وبناء مجتمع واقتصاد المعرفة، وتوفير الشغل المنتج لشبابنا ...)" ( مقتطف من خطاب العرش / طنجة 30 يوليوز 2009) من الأبعاد الأساسية للمخطط الاستعجالي لمشروع إصلاح القطاع التعليمي بالمغرب هو النهوض بالمدرسة وبلورتها وفق نموذج عصري وملائم للخصوصيات المغربية، حيث يهدف "المشروع " إلى الارتقاء بالتعليم الأولي وتنمية الكفاءات المهنية والقدرات التربوية للمربيين والمربيات، والرفع من نسبة التمدرس لدى أطفال الفئة العمرية 5 إلى 15 سنة التي عرفت تطورا ملحوظا. في وقت أصبح الكل يعي خطورة انحطاط التربية والتعليم في البلاد، وأثر هذا على كل مناحي الحياة. " ( كما أن من أولى البرنامج الاستعجالي تحسين فضاءات الحياة المدرسية، وذلك بهدف تشجيع التمدرس والاحتفاظ بالتلاميذ داخل المنظومة التربوية، وتعزيز الجهود من خلال تحسين جودة الخدمات ... / المشروع الثالث من المخطط الاستعجالي : تأهيل المؤسسات )" وهي نفس المطالب التي جاءت في مداخلات أعضاء اللجن المنبثقة عن المجلس الإداري للأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين في الجهة الشرقية في دورته الثامنة، بتاريخ يوم الاثنين 18 يناير 2010 بمدينة تاوريرت، حيث أجمع كل المتدخلين على ضرورة التأسيس لتعليم جيد ومنتج ، ومعالجة ظاهرة عدم الالتحاق والانقطاع عن المدرسة، والتي ترجع إلى أسباب اجتماعية واقتصادية وثقافية، لذا وضعت الوزارة الدعم الاجتماعي ضمن الاستراتيجيات الأولى ( ... ) . ففي سياق هذه الإصلاحات التي شرع المغرب في إدخالها على مكونات المنظومة التربوية تنفيذا للمخطط الاستعجالي، بلورت وزارة التربية إستراتيجية لتطوير التعليم الأولي، ثم تأهيل العرض التربوي القائم، وتوسيع العرض التربوي العصري. ولكن من سيتولى بالفعل تحقيق الإصلاح التعليمي في المغرب ويضطلع بمتطلباته ؟ ومن هي الصفوة المختارة من المتعلمين والمثقفين والمجربين والمدركين لخطورة تراجع القطاع التربوي، ومطالب الأمن التعليمي. وهل يمكن لهذه الشريحة التي يرشحها علمها وفهمها وتجربتها أن تستمر في القيادة في هذا الميدان ؟ وكيف يمكن لها أن تفيدنا ، وهل ستكون واثقة من قيادتنا للقيام بهذه المسؤولية الجسيمة بصدق وإخلاص وكفاية ؟ فبدون النخب المثقفة، وبدون الصفوة المختارة لا يمكن أن يتحقق أي إصلاح لقطاع التعليم، مهما أقاموا من منتديات ومهما رفعوا من شعارات، ومهما نظموا من مجالس إدارية وأكاديمية. وإذا استمر الوضع على ما هو عليه فلا أمان للمغرب لا من الداخل ولا من الخارج. لأن المقارنة تقول على قدر ما تنجح عملية الإصلاح بالسواعد الجادة والأفكار النيرة، بقدر ما يتحقق للمجتمع الأمن وما يترتب عنه من تقدم وازدهار ورخاء. إذن لا بد من اختيار جيد لهذه الصفوة الوطنية المثقفة، وتدعيمها بكل اللوازم المادية والمعنوية. فالأمر أولا وأخيرا قائم على علم ومعرفة وخبرة. رغم أن السؤال يبقى دائما مطروحا وهو كيف يمكن اختيار هؤلاء المصلحين للقيادة والقادرين على تحمل المسؤولية ؟ وإذا ما فشلنا في هذا المنحى، وفي هذه الفرصة الأخيرة فلا سبيل للاستقرار، لأن أمن البلاد كله مبني على أمن تربوي علمي وفكري، ومن ثم فمستقبل البلاد القريب هو في المدرسة وفي إصلاح هادف للمنظومة التربوية. بعد اعتماد الميثاق الوطني للتربية والتكوين، كفصول ونصوص لم ترق إلى مرحلة التطبيق لأسباب سياسية وحزبية ومصلحية عائلية ضيقة، فقد أصبح من اللازم تدارك الأبعاد الأساسية والوطنية والمستقبلية لمشروع إصلاح المنظومة التربوية في بعدها التربوي أولا، ثم العلمي والتكنولوجي. ولن يتحقق هذا إلا من خلال رد الاعتبار للمدرسة، وبالاعتماد والتركيز على الأولويات التربوية، وغرس قيم المواطنة والتضحية ، والعمل على تفضيل المصالح العامة للوطن والمواطن. مع توفير كل الشروط للمدرسة وللمدرس حتى تتمكن من أداء رسالتها على أكمل وجه. لكن لماذا أخفقت كل الإجراءات الإصلاحية السابقة في حل معضلة التعليم والتكوين في المغرب، وفي إقرار أمن تربوي ؟ الملاحظ أن الكل أصبح يشتكي من غياب التربية الصحيحة والمستقيمة في المجتمع المغربي، وذلك لعدة اعتبارات، ونتيجة تأثيرات داخلية وخارجية ، لكن يبقى الجهل والأمية، والارتجال في معالجة القضايا الجوهرية، والأنانية والمحسوبية من الأسباب الرئيسية في تدهور التعليم حتى أن المغرب صنف عالميا ضمن الدول "الذيلية " فيما يخص مردودية منظومته التربوية، ورغم أن الدولة سمحت بقيام وتأسيس معاهد، ومدارس خصوصية كشريك أساسي للقطاع العام، ولتعليم اللغات الأجنبية للناشئة في سن مبكرة، وصقل المواهب الفنية ، لكن الكثير من أباطرة التعليم الخصوصي ومؤسسات التكوين الإعلامي والتكنولوجي لم يلتزموا بالفصول المنصوصة عليها من طرف وزارة التربية الوطنية والتكوين والتعليم العالي، فحولوه إلى تجارة لتخريج العاطلين رغم الإغراءات الاشهارية الواعدة بمستقبل مضمون باستكمال التكوين في الخارج. لأن رمي التعليم في أيدي سماسرة السوق، للمتاجرة به « وسمسرته " أبعده عن النظرة العلمية، والتخطيط الدقيق، والتفكير الهادئ والرزين والحس الوطني الصادق. وإذا كانت الدولة والأحزاب وجرائدها، والبرلمان قد انكبوا في السنوات الأخيرة على الاهتمام بالأمن الوطني والسلم الاجتماعي، والتنبيه إلى الخطرين الداخلي والخارجي : في الداخل محاربة الجريمة والمخدرات، وحفظ الأنفس والممتلكات ... وفي الخارج اليقظة من الجريمة الدولية المنظمة، والإرهاب الدولي، وحماية الأمن الروحي للمملكة من التطرف والغلو والتشيع، فإن الدولة كادت أن تفقد إرادتها في التحكم في زمام الشأن العام. ووفق ما تقتضيه المصالح العليا للبلاد دون وصاية من أحد ونعني بهذا إقرار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكان التعليم من الحقوق الضرورية التي وجب على الدولة أن توفرها للمواطنين بدون تمييز أو حيف، لأنه لا يعقل أن تبقى فئة معينة ومعروفة محتكرة للتكوين الجاد، وللشواهد المؤدية للمناصب العليا، في حين يقف آخرون مهيئون بجدارة عند السلالم الدنيا، والتي تحد من طموحهم ورقيهم العلمي والاجتماعي. وها هو العاهل المغربي جلالة الملك محمد السادس يجوب كل أطراف البلد للبحث والوقوف عن العلل التي أدت إلى انفجارات يوم 16 غشت 2003 بالدار البيضاء. فكان لا بد من الاهتمام بالأمن الغذائي، والحد من آفة الفاقة والفقر، وضمان العيش الكريم لكل المغاربة بتوفير السكن اللائق لكل مواطن...، وهو التحدي الذي رفعه العاهل المغربي محمد السادس منذ توليه العرش في 30 يوليوز 1999 من خلال مشروع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وهي الشرط الأساسي التي متنت آليات المحسنين الصادقين للوطن المغربي. فكان مشروع مليون محفظة مجانية للمساعدة على التحاق التلاميذ في الابتدائي، والتي تحولت إلى أربعة ملايين محفظة بكل لوازمها، ثم محفظة لكل تلميذ مهما كان مستواه الاجتماعي والمعيشي. وللحد من الهدر المدرسي، تم إحداث دور الطالبات والطلبة، وتوفير وسائل النقل بالمجان في العالم القرى، والإطعام المدرسي الذي وصلت نسبته تغطيته في البادية إلى 100% 100 حسب الإحصاءات الرسمية للوزارة الوصية. فقد تعاقب على قطاع التعليم عدة وزراء متحزبين وتكنوقراطيين، ومنذ الاستقلال وهم يشنفون مسامعنا بإقرار خرائط طريق لإصلاح التعليم، فكانت قصة التعريب، فالميثاق الوطني للتربية والتكوين و" من الكتاب الأبيض، إلى المخطط الاستعجالي لإصلاح التعليم، بعدما دقت نواقيس الخطر بعد تلاشي القدرة على الإبداع والتجديد والتطوير، فغابت الفرص لاستكشاف الطاقات الحية والشابة بسبب تعليم طبقي وانتهازي كاد أن يؤدي بنا إلى الهاوية والفوضى. لأنه بدون الاعتزاز بالطاقات الوطنية وبلورتها، وخاصة تفعيل دور المدرس وفسح المجال له للمبادرة، مع التركيز على إبراز العناصر الرئيسية الثلاث : القيم، التربية على الاختيار، والكفايات، لا يمكن أن يتحقق التقدم والرقي والازدهار. فأمن المغرب كله مرتبط بأمن تربوي وعلمي وفكري، ومستقبل البلاد في المدرسة وفي إصلاح جذري للمنظومة التربوية. وإذا ما قسنا على مقام الدول الراقية، فإن الأمن السياسي والغذائي في البلاد المتقدمة والمتحضرة والتي تحترم ثراتها وتقاليدها، نجده مرتبط بأمن علمي وفكري، تضطلع به جيوش من المفكرين والباحثين والأخصائيين في كل مجالات العلم والمعرفة. ولولا ذلك الأمن العلمي لما بلغت تلك المكانات المتقدمة بين شعوب المعمور. وبالعكس، توجد دول تضم أراضيها الخيرات والثروات الضخمة لكن يعاني فيها المواطن من الجوع والعطش، لأن هذه البلدان تفتقد إلى الأمن العلمي. فإصلاح المنظومة التربوية ليس إجراء تقنيا أوظرفيا، بل الأساس هو غرس القيم التربوية السامية في نفوس التلاميذ، والتأسيس للتفكير الصحيح، والبحث العلمي الرصين، والثقافة الحقة لأن مفهوم الثقافة اليوم أصبح يعم كل مناحي الحياة وأساليب العيش في المجتمع بمعنى : كيف يفكر الفرد وكيف يحس وكيف يتصور الدنيا من حوله، ماذا يأكل وماذا يشرب، والركن الأساسي في كل هذا هو ألا نتخلى عن خصائصنا وشخصيتنا العربية الإسلامية . فهل يمكن أن نحقق البعد العلمي والتكنولوجي في منظومتنا التربوية، بجامعات ما زالت تفرخ الآلاف من الخريجين العاطلين، أما من حالفهم الحظ فقد حولوهم إلى مجرد موظفين، وأساتذة لا يقرأون ولا يبحثون ولا يجددون، فسقطنا في براثن الركود والروتين والجهل. أما الجانب المر والخطير، هو أن أبناءنا ونخبتنا الذين أنفقت عليهم عائلاتهم من قوتها والدولة من المال العام ليتعلموا ويبحثوا، حتى إذا وصلوا الدرجات العليا وحصلوا على الشهادات العلمية وبلغوا مبلغ الإفادة ليردوا الجميل للوطن الذي رباهم واحتضنهم ... هجروه إلى أوطان وفرت لهم كل شروط العمل والبحث. أما من تحولوا إلى موظفين وأطر ... ، فقد أصبحوا يتصفون بكل عيوب مستخدمي الدولة التقليديين، فلا رغبة لهم في البحث، بل همهم الوحيد هو التفكير في رقي درجات السلالم الوظيفية، وأصبح الكل يجري وراء الكسب السريع من مال وعقارات، فعم الفساد وسادت الرشوة وقل الإنتاج المادي والفكري. فالبرامج التربوية والعلمية والثقافية والترفيهية تكاد تنعدم في وسائل إعلامنا، وطغى الأسلوب السوقي في القنوات الوطنية على التقاليد الأصيلة والبرامج الهادفة التي تغرس في النفوس حب الوطن، وتحث على العمل الجاد والطموح، وتنمي الذوق الرفيع. وقد أصبح يجاري في هذه الضحالة وهذا السقوط بعض مسؤولينا وساستنا حتى باتت عمليات التنصير تعرض ضمن الرسوم المتحركة، والترويج للأخلاق الفاسدة من خلال السهرات الأسبوعية الماجنة التي يصرف عليها من المال العام، حتى ظهرت عندنا الانحرافات العنيفة والاستهتار بقيمنا وديننا إلى درجة بهيمية، فارتمى العديد من الشباب في أحضان العصابات الإجرامية والتنظيمات الإرهابية. إن هذا التقديم المتواضع هو مجرد طرح ووجهة نظر لقضية من أهم القضايا والتي هي التربية والتعليم، وهي دعوة موجهة لأهل القرار والرأي والفكر إلى دراسة الموضوع باحترافية وموضوعية، لأن الكل أصبح يعي أننا أصبحنا غير آمنين تربويا وعلميا وفكريا. وإن الاستثمار في مجال التربية هو أثمن استثمار، وأن المستقبل ينطلق من المدرسة.