تعتبر المراكز البحثية اليوم من أهم المؤسسات التي أصبحت تحظى باهتمام الدارسين والباحثين بالإضافة إلى أصحاب القرار، وذلك لما اضطلعت به من أدوار علمية وتوعوية منها ما هو إشعاعي ثقافي ومنها ما هو بحثي علمي أكاديمي، وفي ظل التراجع الذي تشهده المؤسسات الأكاديمية كالجامعات سواء على المستوى المناهج أو الأبحاث العلمية، يمكن القول أن المراكز البحثية اليوم صارت المرشح رقم واحد لإنجاز ما قعست عنه الجامعات من نشر الوعي وتخريج الباحثين وإنجاز المشاريع البحثية الكبرى، والنهوض بكل ما هو اشعاعي ثقافي. ومما أسهم في تربعها على هذه المكانة العلمية، تقاعس الجامعة عن دورها المنوط بها بسبب الاختلالات التي تنهكها حاليا، وتثقل من وتيرة نشاطها فقيد عملها إلى أن أصبحت تتحكم فيها الأيديولوجيات الغالبة والصراعات القطبية، والاتجاهات الفكرية داخل التخصصات ذاتها، والتي من المفترض فيها أن تتكامل وتخلق أجواء من التعاون المعرفي لتحقيق الغاية المشتركة في نشر المعرفة والوعي الحضاري، فالنظام الخاص بالجامعة والوظيفة التي خولت لها والضوابط القانونية التي تحكمها ضيقت الخناق على البحث العلمي بما يتماشى مع شروط وضوابط الجامعة، فحين أن المراكز البحثية منحلة ومستقلة بنفسها عن هذه العراقيل التي تتخبط فيها الجامعة، فالمراكز البحثية تتوفر على الحرية التامة في برنامجها السنوي ومشاريعها البحثية وفق ما تراه مناسبا لحاجات وسيرورة المجتمع وما يطرأ عليه من تغييرات، فضلا عن الاستقلالية المالية والقدرة على استقطاب الباحثين من جميع التخصصات وفق معايير الكفاءة والنزاهة العلمية التي لا تقوم على الولاءات الحزبية و الشخصية والقطبية. ومن التجارب الملهمة في هذا الباب تجربة "مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة"، وإذا ما نظرنا إلى السياق الذي شيد فيه هذا المركز البحثي، نجد أن هذا المركز سبقته مبادرات قام بها مجموعة من المحسنين تشكلوا من أصحاب المال وأصحاب الفكر والعلم، حيث بدأ العمل الإحساني عندهم في مرحلته التقليدية، ببناء المساجد وبناء الدور والكتاتيب القرآنية، ليتطور هذا الوعي فيما بعد وينتقل إلى مرحلة أخرى، أحست فيه هذه الثلة المباركة التي تشكلت من أصحاب المال (المحسنين) وأصحاب الفكر(العلم) بنوع من الاكتفاء والوعي الجماعي، فلم يعد يقتصر عملهم على بناء المساجد وبناء الكتاتيب القرآنية وينتهي؛ بل تطور العمل الإحساني إلى أن أصبح جزءا من المنظومة الفكرية والثقافية للمجتمع، فانخرط في هذا العمل الاجتماعي والثقافي المجتمع بأكمله فأصبحوا يستجيبون للقضايا العلمية والفكرية، فانتقل هذا الجهد وأنصب في بناء الدور العلمية كبناء كلية بالكامل، ككلية التجارة والتسيير التي شيدتها امرأة، كما تم بناء بناية بكلية جامعة محمد الأول وهي عبارة عن قاعة كبيرة للأساتذة تضم قاعات للمناقشات العلمية والاجتماعات ومكاتب للأساتذة، كما تم تشييد عمارة خاصة بالطلبة يتم كراؤها بأثمان رمزية تكفل لطلبة العلم المأوى والحاجيات السكنية، وفي هذا السياق تم الارتقاء بالوعي الفكري للساكنة والعمل الإحساني فصار للمحسنين هم كبير له بعده الاجتماعي والتضامني، فانبثق عن هذا التطور في العمل الإحساني فكرة بناء "مركز الأبحاث والدراسات الإنسانية والاجتماعية بوجدة" الذي أسس سنة 2002 وهو يعمل جاهدا ليستجيب لتطلعات الباحثين والدارسين من مختلف الجامعات، وأضحى محضنا كبيرا للطلبة الباحثين ويقدم لهم خدمات لا تعد ولا تحصى سواء على مستوى ما هو ثقافي اشعاعي كتنظيم المؤتمرات والندوات وبرمجة التكوينات التي تستهدف تخصصات الطلبة الباحثين وتساهم في سد حاجات الباحثين في المعارف المستجدة التي لا تقدمها الجامعة من معارف_ دون الدخول في تنافسية مع الجامعة بل كشريك في نشر الوعي والمعرفة_ وما توفره المكتبة الضخمة من المصادر والمراجع لمختلف التخصصات، أو على مستوى المشاريع البحثية التي يعكف على انجازها أساتذة المركز ضمن فرق بحثية متخصصة من مختلف الفروع العلمية، فصار هذا المركز علامة للتميز، ويمكن رصد هذا التميز من خلال مؤشرين اثنين: أولهما: الرؤية الشمولية وثانيهما: العمل الجماعي ومن مرتكزات رؤيته الشمولية عدم الانزواء في تخصص معرفي واحد، بل صار يعمل وفق قاعدة "التفكير العام والعمل الخاص" وتتجلى هذه الرؤية العامة فيما يقدمه المركز في برنامجه السنوي من مؤتمرات وندوات وأيام دراسية وتكوينات وموائد مستديرة وقراءات في بعض الكتب فضلا عن الانفتاح على السينما واقتباس كل ما يمكن أن يحقق أهداف المركز التوعوية والنهضوية. أما العامل الخاص فيتمثل في الوحدات التي تشتغل داخل المركز أو ما يسمى الخلايا البحثية وتتكون من اثنتا عشر وحدة التي تتكامل فيما بينها، فتعمل بشكل خاص ضمن الفكرة العامة وهذه الوحدات هي: وحدة الدراسات اللغوية، ووحدة الترجمة، ووحدة الدراسات المغاربية، ووحدة الاجتهاد والتجديد في العلوم الشرعية، ووحدة الدراسات الجيوسياسية، ووحدة الدراسات القانونية والعمل القضائي، ووحدة البحث في القانون الجنائي والعلوم الجنائية، ووحدة الدراسات الاقتصادية، ووحدة البحث في المالية الاسلامية، ووحدة البحث في المعرفة والثقافة الاسلامية، ووحدة الدراسات الفنية، ووحدة الدراسات الثقافية. وهذه الوحدات تشكل مرتكز العمل الجماعي الذي يقوم عليه المركز وتعتبر الأذرع العلمية التي تحقق التنوع والتكامل المعرفي. وإنه لمن الجميل أن تذكر هذه التجربة، وإنها بحق لمن الأعمال التي تمكث في الأرض وتنفع العباد، فحق علينا أن نذكرها لتذاع وتنشر بين الناس، تجربة تحي روح العمل الإحساني والوقفي الذي أفرز هذا المركز البحثي، والذي لا يقل أجرا ولا فضلا ولا بركة عن بناء المساجد والأعمال الاجتماعية والتكافلية الأخرى، ولعل هذه التجربة يعز نظيرها لسبب واحد ووحيد، وهو أنها خرجت من رحم المجتمع ونتاج لبيئة مجتمعية ارتقى فيها العمل الإحساني من النفع الفردي إلى النفع الجماعي، كما استمد قوته وشرعيته من وعي المجتمع بتعاليم دينه الحنيف. وكم نحن اليوم في حاجة ماسة إلى مثل هذا المبادرات التي يتزاوج فيها أصحاب المال والجاه، بأصحاب العلم والعمل، فأين أصحاب المال(المحسنين) من هذا؟ وأين أصحاب الفكر (العلم)من هذا؟
الأستاذ: "الخليل الواعر" – طالب باحث بسلك الدكتوراه بكلية الآداب و العلوم الانسانية بالجديدة