يسقطون كما تسقط أورقا الخريف وهي مُجبرة على أن تركع أمام جبروت الطبيعة، كأزهار الأقحوان حين تغتال رونقها و أريجها الفوّاح أيادٍ غاشمة، إمتدت غصباً عن كرم الطبيعة لتحيله لصحراء قاحلة، تصلح فقط لعيش الذئاب و الضواري و إبن أوى، فكم من إبن آوى يعيش بيننا في رداءة بيضاء ويتباكى الدموع مُهما إيانا أن قلبه علينا. من فاس حيث رسم الزمن حدود مجد الوطن، ومن قلاعها برز الصوت الحر ومن هضبة أنينها خرج أشبال حلموا بوطن لا يتلوّن، أرادوه أبيضا شفاف يتسع للجميع، أحبوّا من تصبب عرقهم على أديم أرضه، و بكوّا من خضّبت دمائهم أراضيه دفاعا عنه. لكن مُحبي السواد و الظلمة والراغبين في وطن ينهشونه دون أن يرأفوا بصراخه وتألمه، شحذوا سكاكينهم و أشهروا قوانينهم في وجههم، فدفنوا من كان "راسوا قاسح"، وزجوا في زنازينهم بمن ظنوا أنه سيليّن مع الزمن وهم واهمون في ذلك، فمن دخل السجن على مبدأ وقضية، يستحيل أن يدير ظهره لدموع تلك المرأة وهي تشيّع ولدها الشهيد. من قرية صغيرة بنواحي مدينة "شباط" فهو ورثها و نصبّ نفسه إلاهاً عليها. ولد وهو يرفع شارة النصر ورضع من ثدي أمه المتهدل لبن حب المسحوقين و الكادحين وكبر معه الحلم في وطن يحسُّ أن ينتمي إليه، غادر الدوار في إتجاه الجامعة ماشيّا في إتجاه المحطة، ملتفتا يرى يد أمه و هي تودعه وهو يقابلها برفع نفس شارة النصر التي ولد وهو يرفعها، وفيها وجد مشتلا يزرع فيه نبات مواقفه. تحوّل الحلم لرغبة بعد أن ضم ساعده لآخرين يتقاسمون معه نفس الهواجس ويحلمون نفس الحلم، غير عابئين بعيون غراب تراقبهم وتعدّ أنفاسهم، منتظرا أن ينشُب مخالبه في أجسادهم. عاد لنفس القرية لكن هذه المرة محمولا على أكتاف من قاسموه تألمه على الوطن و الكادحين، لم يقابل أمه بشارة النصر كما إعتاد فعل ذلك حين يزورها، بل هي من رفعها، فقد أرضعته حب من إلتفوّا حول نعشه وهم واقفون ينظرون لصورته وهي مرسومة على لوح التابوت، حيت يرقد قرير العين مطمئنا أنه مات من أجل الوطن. مصطفى مزياني شهيد وحتى إن لم يكن شهيد، فهو عريس الوطن رفض أن يختلي به فمات كمدا عليه. لا نساوم في الموت ولا نقايض في طرق حبنا للوطن، عشقنا نحن للوطن ليس كعشقهم هُم. نحن نعشقه كقطعة تراب ولوحة مرسومة على جبين عجوز، هو مرسوم في نصل فأس و يد منجل و راية حمراء تُرفرف، ليست راية دماء. هي عَلُمُ الحب و الكرامة و الإنسان. لسنا نحن من صنّف "مصطفى" في سجّل الشهداء، هو التاريخ من كتب إسمه بحبر أحمر. وليس هو وحده من دفع ضريبة عشق مُحرم للوطن، آخرين يدفعون الضريبة و يتألمون ويتحملّون برودة المعتقل في سبيل أن يبتسم الوطن. رحل "مصطفى" و سننتحب عليه و سنزور قبره حتى يجف ماء تربته، و سيبقى الجلاد مبتسما في أن أرسل من يقض مضجعه للقبر، مُعتقدا أنه تخلص من صوت يفضحه ونسي أن كل يوم يولد "مصطفى" جديد، تنجب شابة في أعلى الجبل "سعيدة" أخرى. و يكبر في تخوم النسيان "بنعيسى" و "زروال" و "موناصير" و آخرون. ليس الوطن سوى تلك الحجرة الحامية التي تزداد سخونة كل يوم منتظرة أن تحرق من آلموه طيلة عقود من الزمن، فتاريخ الأوطان ليس حكام بل هم سواعد بنت جدرانه وحاصديّ حقول سنابله، والتاركيّن الورد يزين جنباته. الحكام مآلهم جهنم الوطن حيت لن يغفر لهم سنوات تكالبهم عليهم، و بولهم على جثته وهم منتشين بخمرة الفوز الوهمي. سيحيلهم لدرك سعيره و سيرفعون رؤوسهم للأعلى، و سيرون من قتلوا أحلامهم و إغتالوا حياتهم نجوما تزين سمائه. فلترتح "مصطفى" في قبرك البسيط بساطة حياتك، فحتى لو إسترخص فيك من يحكموننا كلمة شهيد، فأنت كذلك. فالشهادة لا تتطلب حمل السلاح دائما، هي بألوان كثيرة لكنها قطٌ لم تلبس السواد الذي غلّف عيونهم. [email protected]