شكلت قضية القدس الشريف على الدوام إحدى أولويات الدبلوماسية الملكية ولم يرتبط ذلك، بحسب ما قد يعن للبعض، بتسلم المغرب لرئاسة لجنة القدس، وإنما كان تخويله هذه المهمة في الأصل نتيجة واعترافا بمواقف ملكية تميزت بروح قيادية يقظة وجريئة، وانخراط فاعل في دائرة القرار العربي الخاص بتدبير هذا الملف. وكان من مؤشرات هذه الروح القيادية اليقظة والجريئة والمتفاعلة بصورة سريعة مع تطورات الأحداث، تلك الدعوة التي وجهها جلالة المغفور له الحسن الثاني، بعد إحراق المسجد الأقصى في غشت 1969، لعقد أول قمة إسلامية في الرباط، وهي القمة التي كان من أهم نتائجها إعطاء الميلاد لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي أعطت بدورها، في سياق توصيات المؤتمر السادس لوزراء خارجية الدول الإسلامية الذي عقد بجدة ما بين 12 و15 يوليوز 1975 شهادة ميلاد لجنة القدس.
وتواصل هذا الانخراط الفاعل والمسؤول بتسلم جلالة المغفور له الحسن الثاني رئاسة لجنة القدس، وباستضافة المغرب للعديد من القمم العربية والإسلامية الأكثر حسما في سياق خدمة القضية الفلسطينية ككل وقضية القدس الشريف على وجه الخصوص.
وبتعقب تاريخ القمم العربية وما أسفرت عنه في هذا الاتجاه، يشهد لقمة الرباط السادسة (28 أكتوبر 1974) أنها كانت المحطة الأساس للاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد وشرعي للشعب الفلسطيني، كما أن بيانها الختامي، وفي التفاتة مميزة تصوغ قانونيا قيام حكم السلطة الفلسطينية على أراضيها المحررة، تبنى، بطلب من عرفات، بندا يمنح للشعب الفلسطيني الحق في أن يقيم سلطته الوطنية المستقلة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية على كل جزء يتم تحريره من الأرض.
ولم يكن ذلك ممكنا، لولا قمة الرباط الخامسة (ما بين 21 و23 دجنبر 1969) التي مهدت لهذا الأمر على نحو رمزي يحمل دلالة جد قوية من خلال وضعها مقعدا لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في الصف الأول على قدم المساواة مع رؤساء الدول والحكومات العربية، ومنحها المنظمة حق التصويت في القمة.
وتزكت هذه الفاعلية والقيادية لتدبير قضية القدس الشريف على عهد صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وتأكد بالملموس أن السياسة الخارجية المغربية واصلت الحفاظ على ثوابتها ومحدداتها الأساسية المرتبطة بالتاريخ والجغرافيا والتوجه العربي والإسلامي كما أقرها دائما دستور المملكة.
ومن تلك الثوابت الوقوف في جبهة الدفاع عن القضية الفلسطينية في كل المنتديات الدولية ومواصلة الاشتغال بفاعلية على رأس لجنة القدس باعتبارها أحد الشروط الرئيسة لكل تحرك دبلوماسي ملكي أو رد فعل رسمي إزاء تطورات ومستجدات الأوضاع، وهو ما أكده صاحب الجلالة الملك محمد السادس عند افتتاحه للدورة العشرين للجنة القدس بمراكش (17 و18 يناير 2014 )، في حضور رئيس دولة فلسطين محمود عباس، حين قال جلالته إنه منذ آخر دورة للجنة "لم نقف مكتوفي الأيدي. ذلك أن قضية القدس أمانة في أعناقنا جميعا، حيث جعلناها في نفس مكانة قضيتنا الوطنية الأولى، وأحد ثوابت سياستنا الخارجية".
وشدد على أن عمل جلالته على رأس لجنة القدس، والدفاع عن هذه المدينة السليبة، " ليس عملا ظرفيا، ولا يقتصر فقط على اجتماعات اللجنة. وإنما يشمل بالخصوص تحركاتها الدبلوماسية المؤثرة، والأعمال الميدانية الملموسة داخل القدس، التي تقوم بها وكالة بيت مال القدس الشريف، باعتبارها آلية تابعة للجنة".
وأضاف أن هذا الاجتماع "يعد خير دليل على إرادتنا المشتركة، في مواصلة الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق، وعن الهوية العربية والإسلامية للقدس الشريف. كما يشكل مناسبة سانحة للتشاور والتنسيق، بشأن ابتكار الوسائل الملائمة، لمواجهة السياسات العدوانية على الشعب الفلسطيني الصامد، والمخططات الاستيطانية، والانتهاكات التي يتعرض لها الحرم القدسي الشريف، والمسجد الأقصى المبارك".
وهذه الفاعلية واليقظة والاستمرارية في دعم القدس الشريف والقضية الفلسطينية باعتبارها محور أساس ضمن التحركات الدبلوماسية المغربية هي ما حرص جلالة الملك على تجديد تأكيده في رسالة توجيهية بعث بها جلالته إلى سفراء المملكة الملتئمين في ندوة نظمتها وزارة الشؤون الخارجية والتعاون بالرباط من 30 غشت إلى فاتح شتنبر 2013 ، حيث قال جلالته، وهو يرسم خارطة طريق عمل الدبلوماسية المغربية ويثير الانتباه إلى ثوابتها ومحدداتها، إن المغرب يواصل "دوره المعهود، في إرساء مقومات نظام عربي متضامن ومندمج، ملتزما بدعم القضايا العربية والإسلامية، وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني، ونضاله الوطني من أجل إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس الشريف".
ووفقا لهذا الموقف الفاعل واليقظ والمثابر، لم تخلف الدبلوماسية الملكية قط موعدها مع التاريخ، بل كانت سباقة بجرأة وكثير من الدأب، مستحضرة في معالجة كل قضية، ومنها قضية القدس الشريف الأبعاد القانونية والاقتصادية والإنسانية، وذلك في خضم عالمي مطبوع بالتجاذب والتنافر وتغليب المصالح .
وفي هذا الصدد، جاءت مبادرة جلالته، في سياق العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة الذي خلف العديد من الضحايا، بمنح مساعدة إنسانية عاجلة بقيمة خمسة ملايين دولار للسكان الفلسطينيين بقطاع غزة، ضحايا هذا العدوان ، وأيضا قرار جلالته تمكين الجرحى من الاستشفاء وتلقي الرعاية الطبية والعلاج في المغرب، وكذا تنديد وزارة الشؤون الخارجية بشدة بالعدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة وتقتيله للمواطنين الأبرياء بدون تمييز والدعوة إلى حشد الجهود الدولية لإيقاف هذا العدوان الغاشم.
وكرد فعل على هذا الموقف الكريم والمتضامن، سجل الأمين العام للهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات، حنا عيسى، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن "جلالة الملك كان دائما وراء مبادرات متقدمة في دعم الشعب الفلسطيني وقضاياه العادلة" وأنه "بادر كعادته، وقبل الجميع، إلى تقديم تبرع سخي لدعم أهالي قطاع غزة، وقال "نحن نثمن كفلسطينيين كل المواقف والأدوار التي يقوم بها جلالة الملك، خاصة لوقف العدوان الإسرائيلي على أبناء الشعب الفلسطيني في القطاع، وكذا جعل القضية الفلسطينية على رأس أولويات جلالته العربية ومواقفه الأصيلة".
وأكد مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الدينية والعلاقات مع الدول الإسلامية، وقاضي قضاة فلسطين الشرعيين، السيد محمود الهباش، في تصريح مماثل، أن "هذه المكرمة مألوفة من جلالته، الذي عودنا على وقوفه الدائم مع الشعب الفلسطيني، في السراء والضراء".
وأضاف "يكفي أن جلالة الملك يضطلع بمهمة من أسمى المهمات المرتبطة بأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ممثلة في رئاسة جلالته للجنة القدس ورعايته الموصولة لوكالة بيت مال القدس، التي تقدم دعما سخيا للمقدسيين على جميع المستويات والأصعدة".
وهو ما أكده سفير دولة فلسطين بالمغرب، أمين أبو حصيرة، حين أكد، في تصريح مماثل أيضا، أن هذه المبادرة الإنسانية ليست غريبة عن جلالته الذي يترأس لجنة القدس، التي تتولى رعاية مصالح الفلسطينيينبالقدس وتساعدهم على الصمود والبقاء على أرضهم ومقاومة محاولات تهويد المدينة المقدسة، مبرزا أن "جلالته كان دوما حريصا على أن تبقى القدس بهويتها العربية الإسلامية، عاصمة لدولة فلسطين الحرة المستقلة التي نريد بناءها على أراضينا المحتلة عام 1967 ".
وأكدت الأرقام والبيانات وكذا البيان الختامي للقمة العشرين للجنة القدس بمراكش، أن اللجنة واصلت، على مدى الإثني عشرة سنة الماضية، بفاعلية أنشطتها، خاصة على المستوى الميداني من خلال ذراعها التنفيذي وكالة بين مال القدس، وأن تركيزها انصب على "الدعم المباشر والملموس، والمبادرات السياسية الهادفة، والتجاوب مع الاحتياجات الإنسانية الملحة والمتجددة للمقدسيين لمساعدتهم على الصمود في موطنهم".
كما برز عطاؤها النوعي أيضا في "الأعمال والمشاريع الميدانية في القدس الشريف لمواجهة سياسة التهويد التي تنهجها سلطات الاحتلال في المدينة المقدسة لتغيير معالمها وهويتها العربية والإسلامية والمسيحية".
وضمن هذه الاستراتيجية، شكلت وكالة بيت مال القدس الشريف، التي أحدثت منذ سنة 1998 في إطار منظمة التعاون الإسلامي، "الذراع التنفيذي لمتابعة تنفيذ قرارات المنظمة" بهذا الخصوص.
وفي هذا الصدد، سجل المدير العام لوكالة بيت مال القدس الشريف، عبد الكبير العلوي المدغري، في تصريح مماثل، أن دعم جلالة الملك للوكالة، والتي تساهم المملكة المغربية بنسبة ثمانين في المائة من الدعم المالي المرصود لما تتولى تنفيذه من مشاريع، هو ما يمنحها القدرة على مواصلة تنفيذ مشاريعها الرامية إلى دعم المقدسيين والحفاظ على المعالم الحضارية للمدينة المقدسة، وأنه يرجع لجلالته الفضل في تأسيس مقر وكالة بيت مال القدس وفي تخصيص ميزانية سنوية لتسييرها، وكذا تمويل عدد من المشاريع من ماله الخاص.
وبما أن الصراع العربي الإسرائيلي ليس مجرد نزاع حول الأرض أو نزاع سياسي فحسب، بل هو صراع ثقافي محوره الإنسان، ويرتبط بالهوية ومقومات الشخصية العربية الإسلامية وبالقدس التي تسعى إسرائيل إلى محوها، فقد محورت وكالة بيت مال القدس الشريف تدخلها في الميدان الثقافي على تخصيص منح جامعية لطلبة مقدسيين للدراسة بالجامعات، وتأسيس مكتبة متخصصة في تاريخ القدسوفلسطين، ودعم العديد من المشاريع والأنشطة الثقافية داخل القدس وخارجها.
وتتابع لجنة القدس، وفق ما هو مخول لها من مهام، بالدرجة الأولى تطور الأوضاع في مدينة القدس بغرض التصدي للمحاولات الإسرائيلية الرامية إلى طمس الطابع العربي الإسلامي عن المدينة المقدسة، كما تتابع تنفيذ القرارات الصادرة عن مؤتمرات وزراء خارجية البلدان الإسلامية، وكذا القرارات المصادق عليها حول القدس من مختلف الهيئات والمحافل الدولية، وتتولى الاتصال بالمنظمات الدولية الأخرى التي قد تساعد على حماية القدس، كما تجتهد في تقديم مقترحات للبلدان الأعضاء ولكل المنظمات المعنية بخصوص الخطوات المناسبة لضمان تنفيذ القرارات في مواجهة كل المستجدات.