من المعلوم أن ما يطلق عليه "swing states" أي ما يمكن أن نسميه باللغة العربية "الولايات المتأرجحة" هي التي رجحت كفة الجمهوري دونالد ترامب (Trump) بصفته الرئيس 45 بالولاياتالمتحدةالأمريكية من أصل 58 عملية انتخابية (بعض الرؤساء انتخبوا لولايتين). لقد حصل الرئيس في المجمع الانتخابي على 306 أصوت مقابل 232 لغريمته التقليدية ممثلة الحزب الديمقراطي (H. Clinton) التي يبدو أن وسائل الإعلام تعاطفت معها من خلال استطلاعات غير علمية للرأي الأمريكي، فمنحتها فوزا نهائيا حتى قبل انطلاق الحملة الانتخابية... وسائل الإعلام وصناع القرار ولوبيات الاقتصاد والمال، وأصحاب الشركات الكبرى في أمريكا وأوروبا وفي العالم العربي كعادتهم أعمتهم المصلحة الشخصية، ونظروا إلى أمر جلل من الزاوية الضيقة... وفي الواقع كانوا يراهنون على وراثة الحكم، وعائلية السلطة التي تتداولها أسماء بعينها تتناقلها أبا عن جد كآل كينيدي، وآل بوش، آل كلينتون... وفي العالم العربي، حدث ولا حرج... لقد تداولت الأقلام أسباب هزيمة كلينتون من وجهات نظر متعددة ومركبة. ولكنني أعتقد أن انحياز العرب انحيازا أعمى إلى حملة مدام كلينتون وانخراطهم الكلي في غمارها بالمال والولد، بالنفس والنفيس... كان عاملا حاسما لصالح دونالد ترامب الذي وعد بنقل سفارة أمريكا إلى القدسالمحتلة، وهو وعد مشؤوم كوعد "بلفور" تماما... كما ان تسريبات موقع "ويكيليكس" المفاجئة للبعض دخلت على الخط وأرخت بظلالها على عملية "تغير الأوضاع". ومن جهة أخرى، لا ننسى أن السيدة كلينتون تلقت ضربة موجعة في الظهروهي التي أثرت في شعبيتها كثيرا من طرف الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية. هذا دون أن نترك جانبا استغلال دونالد ترامب نفسه لهذا التحامل المفرط لقوى كان من المفروض فيها ان تنقل فتعتبره مقدسا، وتترك التعليق للناخب كي يختار دون ضغط أو إسراف في الإرشاد، وكأن الناخب الأمريكي ما زال قاصرا، ولا يقوى على اتخاذ القرار بحرية!! أجل استغل دونالد ترامب هذا الهجوم الكاسح عليه... وانتظر قليلا وهو يرى أن هناك إمكانيات شن هجوم مضاد في الدقائق الأخيرة من المقابلة حيث ذكر "آل كلينتون" وحزبهم الديمقراطي بفضيحة "مونيكا لوينسكي"، وطرحها في سياق "الدفاع عن النفس " ليبرهن لمن يعتقد أن الرؤساء الديمقراطيين جادون كدعاة لاحترام مبادئ حقوق الإنسان، ليسوا ملائكة بل إنهم معرضون للخطإ كباقي البشر، وأنهم قد يخرقون أي مبدإ يدافعون عنه خلال حملاتهم الانتخابية، عندما يتربعون على كرسي المسؤولية. لقد تعاطف الملايين من الأمريكيين مع "دونالد ترامب" ليس كنموذج، ولكن من منطلق أنه "حامل للتغيير"... وكل مجدد أو مغير قد يتعرض لأبشع صور الاتهامات والإشاعات من طرف خصومه الذين يحاولون تخويف الناس من سلك طريقه المحفوف بالمخاطر؛ وهم في الواقع إنما يخافون من محاسبته، ويخشون التغيير لأنه ليس من مصلحتهم عاجلا أو آجلا. هذا وقد علمتنا الممارسة التربوية، ومنحتنا النظريات النفسية والاجتماعية تفسيرا لهذا الإشكال: ذلك أن الفرد الذي يقاوم التغيير، إنما يخشى أن يفتضح أمره بواسطة التجديد وفي خضم جدته... فمن اعتاد الخوض في الماء العكر يصعب عليه العيش في المياه الصافية. لقد تضامن معه آخرون لأنه قدم نفسه بصفته (أمريكيا أصيلا) سيحارب العولمة المتوحشة بلا هوادة، وهؤلاء يرون فيه النموذج الأفضل لمواجهة البورجوازية الأمريكية المتحكمة في شؤون البلاد والعباد، والتي لا يهمها سوى تركيع الشعوب... فقد اقتنع أتباعه أنه سيمارس الانكفاء على الداخل لمعالجة المعضلات الأخرى، ولكن ليس على طريقة التقوقع السلبي كما وقع في بعض الدول الشيوعية مثلا. بل هو محاولة إصلاح ما أفسده الجمهوريون والديمقراطيون قبله الذين حولوا الولاياتالمتحدة إلى شرطي العالم في قاموس العقل الجمعي العالمي. بل إن جورج بوش الابن كان يتصرف كإله حيث تضخمت أناه كثيرا وكأنه ينجز وعدا قطعه على نفسه في الأزل عندما أطاح بالشهيد صدام حسين في العراق بتآمر مع جل الحكام العرب ضدا على الإرادة الشعبية العربية التي كانت ترى أن الأسلحة الكيماوية ليست سوى ذريعة لحماية إسرائيل... أما إسقاط نظام طالبان فكان ظالما بكل المقاييس. الولايات المتأرجحة بأمريكا هي التي صوتت للرئيس الأمريكي رقم 44 "باراك أوباما" واعتبرتها "السيدة كلينتون" في الجيب، وقالت عنها "نيويورك تايمز" يوما ما معناه أن سكان هذه الولايات لن يغامروا باتباع آثار مغامر، في إشارة منها إلى "ترامب"... بعض الجرائد الأمريكية لم تتردد في وصف "ترامب" بالمعتوه الذي يعاني اضطرابات نفسية قد تكون مستعصية على الأدوية نفسها... لذلك مارست الحملة الانتخابية نيابة عن الديمقراطيين كطرف رسمي يشجب الجمهوريين ويمدح الديمقراطيين دون تردد لأنها تعتبر ترامب خطرا على العالم. 1. فلوريدا ب 29 ناخبا كبيرا في المجمع الانتخابي؛ 2. أوهايو OHIO وعدد منتخبيها 18؛ 3. كارولينا الشمالية ب 15 صوتا؛ 4. كارولينا الجنوبية ب 9 ناخبين؛ 5. أيوا Iowa ب 6 أصوات في المجمع الانتخابي. فهذه كانت ضرورية لدونالد ترامب كمحطات أساسية نحو البيت الأبيض وخاصة فلوريدا التي قسمت ظهر كلينتون وحلفائها، وشكلت أولى المفاجآت على مستوى النتائج. أما أوهايو، فلا يمكن لأي مرشح جمهوري دخول المكتب البيضاوي إلا بموافقة ولاية أوهايو. ولكن الضربة القاضية حسب المتتبعين المتخصصين، جاءت من ثلاث ولايات: 1. ولاية بنسلفانيا ب 20 ناخبا كبيرا، وقد كان التنافس شديدا حتى الأمتار الأخيرة من السباق... فمن أصل ساكنة تقدر ب 12.7 مليون نسمة لم يتقدم ترامب سوى ب 44307 من الأصوات، ومع ذلك دخل مجمعه الانتخابي دفعة واحدة... وهذا إن عكس شيئا فإنما يعكس "عدم سواء" النظام الانتخابي الأمريكي. 2. ولاية ويسكنسن، وفيها احتدم الصراع حتى اللحظات الأخيرة، حيث قدر للمرشح الجمهوري التقدم ب 22177 فحسب من بين ساكنة تفوق 5.7 مليون شخص... ونال في المجمع الانتخابي 10 أصوات إضافية. 3. ولاية Michigan متشيغان، وسكانها حوالي 9.9 مليون نسمة فاز دونالد ترامب ب الأصوات ال 16 في المجمع الانتخابي، رغم أنه لم يتقدم إلا ب 10704 من الأصوات الشعبية. إن هذه النتائج كانت تنزل كقطع ثلج على مناصري هيلاري كلنتون، ولم تستسلم الكثير من القنوات العربية وغير العربية بسهولة... فقد قضى معظم المراهنين على كلنتون ليلة بيضاء مرهقة في انتظار احتفال منتظر... ولكنه كان بعيد المنال لأن الناس ذهبوا ضحية تحليلات غير منطقية "لمحللين مرتزقة" حركتهم المصالح والأطماع، وأعماهم الهوى، وقيدتهم أغلال العولمة التي لا تفسر الإشكالية إلا من وجهتي نظر الاقتصاد الإقطاعي، والإعلام المستبد... وهذا ما دفع أنصار "الديمقراطيين" إلى التهديد بالانفصال عن أمريكا بولاية كاليفورنيا [55 صوتا في المجمع]، وهي ولاية (زرقاء) بامتياز لأنها من بين الولايات التي رفعت نسبة الأصوات الشعبية بقوة لصالح مرشحة الحزب الديمقراطي. فمن تناقضات أمريكا أن رئيسها المنتظر متخلف عن منافسته المنهزمة بأكثر من مليوني صوت. طبعا ولاية كاليفورنيا أكبر من المغرب أو الجزائر من حيث عدد السكان (حوالي 39 مليون شخص) ومع ذلك فالمفروض فيها أن تعاقب الإعلام الذي أوهم الناس، وأضل الشباب عبر توجيهه إلى أن الانتخابات مسلم بنتيجتها سلفا... فوقعت الصدمة، ومن واجبها محاكمة النظام الانتخابي الأمريكي لأنه ظالم وغير منصف. ولكن الجميع سيعود إلى رشده بعد معاينة الواقع الذي سيلغي الحلم الجميل... وبإمكان دونالد ترامب الفوز مرة أخرى سنة 2020م إذا استطاع إنصاف الفقراء والمحرومين من أبناء الشعب الأمريكي، وقد يتوج بطلا قوميا إذا ما انكب على معالجة عملية للمشاكل الأمريكية كالبطالة، والأمن، وبعث الطبقة الوسطى من كسادها... ستبقى أمريكا سيدة العالم، لكن شريطة ألا تنساق وراء الأطماع الصهيونية التي تهلل لفوز ترامب وكأنه فتح مبين... إسرائيل التي أخذت من العرب كل شيء ودون أن تتنازل عن أي شيء... ستدفع ترامب لتنفيذ وعد بلفور الجديد: نقل السفارة الأمريكية إل القدس، في أفق اتخاذها عاصمة أبدية لإسرائيل وهي النقطة التي ستفيض الكأس. ونعتقد أن دونالد ترامب الرئيس سيكون – على الأقل خلال السنوات الأربع الأولى- حكيما في أقواله وأفعاله، ومن ذلك أنه سينكب بتعمق على فك رمز لغز محير لدى العقل الأمريكي، ويمكن أن نعبر عنه بالاستفسار الآتي: لماذا أمريكا مكروهة في العالم؟ ولعل عناصر الإجابة تكمن في أن تجرب الولاياتالمتحدة منهجية جديدة أهم محاورها: 1. عدم الانحياز الأعمى لإسرائيل على حساب حق تاريخي للعرب في فلسطين. 2. حل "مشكلة فلسطين"، وذلك عبر الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. 3. إيقاف المستوطنات، وإعادة اللاجئين إلى قراهم ومداشرهم الأصلية بدولة فلسطين. 4. فتح الحوار مع الحركات الإسلامية الراديكالية، والضغط على الحكام في الدول العربية والإسلامية لقبول "التعايش في إطار التدافع الديمقراطي". 5. التقارب مع روسيا لدفع المعارضة والحكومة السورية لإنهاء سفك الدماء وحل المشكل نهائيا في إطار "توافق دولي". 6. الإشراف على حوار عربي / إيراني / تركي / إسرائيلي لتعود البسمة لمنطقة الشرق الأوسط التي تعتبر مهد الديانات، وأرض الرسالات السماوية. 7. تشجيع الأحزاب الإسلامية التي تنبذ العنف للانخراط في المسلسل الديمقراطي لبلدانها عوض إقصائها أو محاربتها لا لشيء سوى لأنها تحمل رسالة الإسلام، أو لأن مرجعيتها هي الإسلام. 8. تقديم اعتذار تاريخي للأمة الإسلامية على غزو العراق، وتفكيك دولته، وعلى إسقاط حكومة شرعية في أفغانستان، مقابل التحيز لما يسمى "تحالف الشمال" الذي صنع دولة فاشلة بأفغانستان. انظر تتمة المقال في ( أقلام من الإقليم )