عبر المحطات التاريخية الوازنة، كل مرة نكتشف أن المسارات السياسية الخالصة، قد تكون من النوادر في واقع التحولات السياسية، سواء تعلق الأمر بتغيير البنيات بشكل كلي، أو بمنطق التداول المفضي إلى تحول نظري في مرجعيات الدولة، وفي أسس بنيانها القديم. لكي نفهم جيدا منطق التحولات، نعتبر بداية أن هناك بناءات قائمة ونسلم أنها قدر محتوم في علم الاجتماع السياسي، وأن تشكلها كان قدرا، تتداخل فيها مفاهيم النخبة، والسلطة والتدبير والحكم والتمدد والتوسع والانحصار... بهذا الشكل سنفهم أن الأحجام الكبيرة، كمكون اجتماعي لها علاقات، اجتماعية وسياسية واقتصادية وعسكرية وروحية... سنقوم باختزالات المكون السياسي لكي نستوعب أكثر وعن قرب مفهوم التحولات، تماما كما فعل الاقتصادي 'كينز' حين اختزل الدولة إلى عائلة لها متطلبات اقتصادية يومية وحاجات وإنتاج يمكن أن تتفاعل بها مع المكونات الأخرى. داخل هذا المكون تكون الحاجة بالأساس إلى ثلاث عناصر مهمة: الحكمة، التدبير والتنفيذ.. طبعا تكون بعض العناصر التي يجب على المكون تحملها وهي إعاقات حقيقية في التدبير الجيد والتكامل المثالي في التسيير، كل مكون يتبنى منهجا خاصا في التعامل مع هذه المعيقات من الإهمال إلى الاهتمام إلى الدمج واستثمار كل المؤهلات إلى الحسم معها بشكل نهائي وإخراجها من دائرة الاهتمام أصلا. هاته العناصر هي التي تستثمر في دائرة التحول وتشكيل الرأي المخالف والحركة المناهضة، لن أتجه إلى كون الفاعل الاقتصادي هوا لمحور في التحولات، ولكن سأقول: إن الفعل المصاحب للمشاكل الاقتصادية هي التي تورث فكرا مغايرا لفكر البنية المسيرة، ويتباين الفكر، من الناصح إلى الإصلاحي إلى الثوري إلى العدمي... للأسف الدولة حين يكون أمامها خيارات كثيرة تخدم الاستقرار والاستمرار، لا تنتبه إلى أن تبنيها إلى احد الخيارات يكون في صالح الكل، وربما المسؤولية تكون على عاتق الفاعل الاجتماعي، والراصد للمؤشرات الاجتماعية، لا يعطي القراءة الصحيحة لحالة الأزمة ودرجة تفاقمها داخل المجتمع، بل بهمل قوة الفعل لهذه الطبقة المجتمعية التي أصبحت وسائل التواصل بينها أكثر مرونة. وان قدرتها على التشكل كقوة وازنة و مؤثرة، ممكن بشكل كبير جدا، فيصبح التغيير مشروعا مؤسسا على خلفيات ونظريات كثيرة، والمشترك هو التحول المعقود على أمال ووعود لا يمكن أن تكون مأمولة في البنية الحالية. طبعا كل البناءات النظرية يتم استيرادها في هذه الحالة، وهنا يتجلى ذكاء النخبة الموجهة للحراك المجتمعي، الذي دائما يوصف كونه ذكاء يتفوق على البنية القائمة في وسائل التنظيم والتأجيج والتأطير... طبعا من منطق تغير الأنظمة، تسمى المرحلة بالمرحلة الانتقالية، يكون لها طابعها ظروفها وخصائصها العميقة في التشكل والتكتل والحراك أيضا، وهنا يعجز الدارسون الاجتماعيون في تحليل مفهوم، كيف تتشكل بنية داخل بنية نقيض لها، تحقق فائضا تنتعش به، وتتقوى من خلاله، لكي تقضي على البنية القائمة.؟ هذه البنية حين يتم رصدها و رصد معالمها، يتم التعامل معها بالصرامة اللازمة للحفاظ على النظام القائم، وهنا يطرح السؤال: هل آليات التداول السلمي المؤسسة على أغلبية تمتلك مشروعا سياسيا بديلا، مسموح لها بالتمدد بشكل طبيعي أم يتم دحرها بشكل يطمس معلمها؟ سؤال في العمق، يقودنا إلى مفهوم السلطة التي تتشكل لكي تستمر، وأن أي سعي للتغير يعني تهديد الأمن العام و انه انقلاب على البناء القائم، والرد يكون بكل الوسائل التي تصل إلى حد القتل والتصفية.هذا هو منطق كل الدول المؤسسة على مشاريع سياسية وعقائد مذهبية ومراجع روحية. أغلب التحولات اليوم التي يشهدها العالم العربي تسير في اتجاه استبدال مرجعيات الدولة، وإعطائها هوية مغايرة، لهذا نرصد أن التحولات دموية وشرسة، صحيح أن المصالح الاقتصادية والمالية والإستراتيجية محور الصراع و التقاطبات، لكن إن حاولنا فهم المشاريع السياسية التي تبحث عن جغرافية للتوسع، حينها فقط سنفهم عمق الصراع في كل بؤر لتوثر عبر العالم، وان عامل الاقتصاد والمال، يعتبر فائض القيمة والأرباح التي ستمكن الدولة من تأسيس كيانها وتوفير حاجياتها للاستمرار في تحقيق مشروعها السياسي. أكيد أن قوة الدولة في شقها الأمني والعسكري، دليل على وجود فائض مالي يوفر لها حاجيات وترسانتها الضرورية للحفاظ على امن المواطن واستمرار الدولة بشكل طبيعي. في إطار الحديث عن هوية الدولة، يصبح من اللازم أن نتكلم عن ترسانة من المفاهيم: الولاء، الخيانة، الفتنة، العمالة،الوطنية... وهنا الإشكال الذي تريد أن يتناوله مفهوم الدولة الحديثة، التي تسعى إلى إقناع النخبة الحاكمة أنها مرنة ومتحولة وغير قابلة للخلود، وان استقرار الأغلبية مسألة نسبية، يمكن في أي لحظة أن تتحول، بهذا المنطق يصبح التدبير الجيد للحياة اليومية للمواطن و الحكامة الجيدة لمقدرات الدولة في إطار التراضي والتفويض الذي يخوله المواطن للنخبة المسيرة هو عقيدة العقائد، بعيدا على التمايز المذهبي والطائفي. إن العنف الذي يمارس في إطار الدولة، لا مبرر له، بعيدا عن الصفة الجنائية للواقعة، وبعيدا على التعريف القانوني الذي يقدر، أن أمن المواطن والوطن أسمى رسالة النخبة المسيرة، وخارج أي تعبير حر على إرادة التغيير المبني على دعم جماهيري مشروع. إن احترام إرادة الكتلة الناخبة وتوجهها السياسي، هو ثقافة جديدة في الوطن العربي، يبين أن النخبة الحالية لا يمكنها أن تقبل بمبدأ التداول إلا في إطار ما ترسمه من تصاميم وما تريده أن يتحقق على أرض الواقع، مع الحفاظ على مصالحها، طبعا هذا الوضع غير الطبيعي لن يستمر كثيرا، لاعتبارات متعددة، الانفتاح على العالم، وجود محاور دولية جديدة، يمكن أن تلعب دورا وازنا في رسم معالم الوطن العربي بشكل مغاير، نعني هنا إيرانروسيا والصين، هذا المحور أصبح يعي جيدا أن أدواره الدولية في صناعة قطب قوي، مسالة ضرورية.وأن أمريكا ستفقد تدريجيا قوتها في المنطقة، مع فقدانها قدرتها على الانفراد بالقرارات. مع كل مفاهيم الدولة، يبقى للنخبة دور كبير في رسم معالم المراحل القادمة، وأن التحولات عبر المبادرات الاستباقية لأي حراك، دليل على الرصد السليم لتوجه الشعوب، وأن الحفاظ على الأمن والاستقرار، في إطار الخيارات الممكنة، يعتبر مجس حقيقي على نضج النخبة الحاكمة، وأن ممارسة العنف، هو حل ترقيعي لا يمكن أن يفي بأغراض الدولة التي تتأسس على ارث حضاري متجدر في التاريخ، مصر اليوم تبصم على نهاية الدولة المتحكمة، وأن للشعوب إرادة يجب أن تحترم، وأن التاريخ له كلمته.