بالأمس، كانت لي حكاية.من أين سأبدأ هذه الحكاية.حكاية مع أيامي التي كانت تتوسد وسادة خالية.مع ساعاتي ودقائقي التي كنت أملكها و أتحكم فيها كمعلم العرائس. كنت أعتقد ذلك.هل كنت غبية؟ أم للزمن سلطة خفية تنوم العقول حتى لا تفكر.لست أدري .اختلطت علي كل الأوراق و هزمتني أيامي التي كنت أعتقد أنها تحلف برأسي. قلت بالأمس، ابتلعت الظلمة، من وهبتني الحياة وزرعت في عقلي الصغير الصمود أمام كل الرياح مهما علا صياحها و هيجانها. كانت تقول لي بأنني باقية ما بقيت الأيام. لم تكن تدرك بأن للأيام آذان صاغية، ومرارا تصوب سهمها وتصيب الهدف. وضعت ثقتي في الأيام، كما قالت لي أمي.لكن، في يوم من الأيام العادية، حيث طلعت علينا شمس تلمع وتقول ببداية يوم جديد. واختفت في هدوء عجيب، تعلن عن نهاية ذلك اليوم و دخوله في خانة الماضي. وما بين الشروق و الغروب، أصابني سهم غادر، اخترق أضلعي حتى الألم الشديد. اختطفت الأيام أمي الحبيبة، وهي المسالمة والعاشقة لها. لم أفهم ساعتها ما ذا وقع. هل هو خلل في التوقيت الزمني؟ هل هي نزلة برد عابرة ستمر بسلام؟ سخرت مني الأيام وأشاحت بوجهها عني. استحالت أيامي التي كنت أعتبرها وسادتي الخالية، لجلاد يتربص بي في كل لحظة وكل حين.كرهت أيامي وانزويت بعيدا عنها في أعلى الجبل أبكي أمي وأعيد حساباتي. لم تتوقف الحياة و لم تتوقف الأيام. كانت لي أيام بيضاء لا أثر لي فيها .أعيشها بمرارة و أعمل على خلق يوم جديد مع فجر جديد لا أثر للخيانة فيه. صارعت الرياح العاتية كما علمتني معلمتي الأولى، وقلت لنفسي الجريحة، ربما سنجد في مكان ما، أياما جميلة تسقينا حبا وفرحا. ومشينا طويلا حتى دمت أرجلنا. تغلغلنا وسط الغاب ،نمنا على الأرض العذراء و»تلحفنا السماء». لم نعد نرى لأيامنا الغابرة و الغادرة أثرا. تنفسنا الصعداء وقلنا لقد نجونا ولم يعد هناك خوف علينا. مرة أخرى، تغدر بي أيامي الأخرى. هناك امتداد للألم الماضي الذي لم يمت. كأنها أيامي البعيدة في الزمن تنكرت وارتدت لباس حمل، وعادت تعلن حربا أخرى من نوع آخر. حرب، أخاف أن أنهزم فيها و يعود الألم من جديد والخوف من جديد. ابتلتني الأيام هذه الأيام، بطعنة حادة في أعز الأحباب.انه معلمي الآخر الذي رافقني في هذه الحياة بكل حب و ود.لمر يرفع صوته يوما ولم ينظر إلي بعيون معاتبة يوما. كان يراقبني عن بعد و يترك لي حرية التجربة في كل الممنوعات. إذا زرته في بيته، يبتسم وينهض ويستقبلني بعتاب يكاد يكون منعدما. ويسألني عن سبب الغياب الذي لم يطل سوى ساعات.يخطو خارج غرفته بخطوات متثاقلة ويجلس إلى كرسيه للحظات. لا يتكلم كثيرا. أرمقه بصمت. لا أطلب شيئا ساعتها من رب السماء سوى أن يمد في عمره الهادئ وأن يمنع الزمن من التحرك. أبي، جميل في كل شيء. بسيط في كل شيء. مطالبه من هذه الدنيا الملعونة صغيرة وقليلة. جيوبه التي لم تمتلئ يوما عن آخرها، مفتوحة أمامي حتى ولو كانت فارغة. طيب بلا حدود.و هو لا يعترف بذلك. وأحيانا لا يؤمن به. يوم ألم به المرض الملعون، هاتفني ليلا طالبا المساعدة. كان هو أيضا صديق للأيام. لم يفهم ما سر هذه الأيام التي تتلوى كحية رقطاء. لا يسلم منها لا مسالم ولا محارب.اتحدنا سويا ضد الألم الغاشم. تسلحنا بكل الأجهزة المتطورة التي تصيب الهدف عن بعد.كسرنا شوكته ولو بشكل مؤقت. فرحنا لانتصارنا. ضحكنا كثيرا وتكلمنا كثيرا. قلت له «لا يقضي على الألم إلا اللامبالاة.» ابتسم كما تعود أن يفعل عندما يكون غير مقتنعا. وقال لي بصوت يحمل دبدبات متهالكة «نتمى ذلك». غيرت دفة الحوار حتى لا أترك مجالا للأيام الباحثة عن لحظة ضعف، أن تنفث سمومها الغير الرحيمة. تضبط ساعتك على جميع تحركاته. رنت الساعة الخامسة مساءا، قام بدون مقدمات وأخذ يستعد للخروج. اشتاق إلى أصدقاءه الذين تركهم فترة صراعه مع الأيام.استغربت كثيرا لهؤلاء الأصدقاء. أعمارهم متفاوتة تفاوت السماء مع الأرض. ومع ذلك، إذا مررت يوما بجانب المقهى الذي ألفوا أن يجتمعوا فيه، تراهم متحلقين حول بعضهم يتكلمون و يترافعون بالأيدي.. وترى أبي، يبتسم وأحيانا يقهقه كما لم يفعل منذ زمن.صحبة نادرة و جميلة. لكن أجمل ما فيه، روحه الهادئة و الطيبة. تحمله فوق بساط يرفرف في الأعالي ويمشي دون أن يلتفت إلى الوراء. اكتشفت مؤخرا رغم أني ألوم نفسي كثيرا عن هذا التأخير الغير المفهوم، هو أنه صاحب نكتة وروح مرحة. وأنا التي لم تر فيه سوى الرجل الجاد القليل الكلام. يوم تعرفه على مرضه الملعون، كفر بكل الأطباء وكل الأجهزة الحديثة التي تجعل الإنسان يعيش في حالة صراع وخوف... ورفض أن يسمع. قال يومها بصوت حزين «ما هذه الأيام الملعونة التي لا تترك الإنسان أن ينعم في هدوء بأيامه المتبقية له؟»و اختفى وجهه وراء سحابة حزن، استوطنت روحه المرحة، كآبة دامت مدة غير محددة. لم أستطع إخراجه منها. كل محاولاتي باءت بالفشل. وعدت من جديد لأنتصر لأمي التي قالت لي بأن لا أخفي رأسي في الرمال. طلبت منه يوما، أن يحكي لي عن أيامه الماضية وكيف عاشها. كانت لحظة خارجة الزمن. تكلم دون حرج، عادت الابتسامة الهادئة وعادت روحه المرحة. فرحت لانتصاري ورميت بمنديلي الأبيض في الفضاء إيذانا بمرحلة جديدة.