الجسد والكتابة في شعر مراد الخطيبي مرة أخرى تخرج القصيدة من بيت آل الخطيبي مثلما خرجت ذات توهج مع الراحل عبد الكبير ،هذه المرة يطلع منه هذا البيت (الذاكرة) شاعر يظل مأسورا بنبض الذاكرة حاملا ضروبا من البوح والعشق والحنين والفرح المؤجل ،قصيدة لا تستثني الاغتراب والقلق وهي تعبر بالكائن في أحياز يتعامد فيها الماضي والحاضر والمستقبل. في وسع قارئ يمضي مرهفا على نصو ص الشاعر مراد الخطيبي أن يرتب قراءة أعماله الاربعة دون أن يبتعد قليلا عن حضور الذاكرة والجسد واللغة وقلق الإبداع في منجزاته ،"بهجة الصمت"باكورته الاولى التي قدم له الشاعر نورالدين الزويتني ،"لن تقبع عقارب الساعة في مكانها"،"عودة الكلمات إلى مرقدها الأبدي"،"هسيس الذاكرة". كل شيء ننجزه في هذه القراءة يجد صداه في الأعمال المشار إليها سلفا،إذ تفتح النصوص علبتها السوداء بكتابة تمجد الجسد في شتى صوره وتعدد دلالاته ، فتترك القصائد لدى القارئ إحساسا بالانشداد إلى الذاكرة،ذاكرة النص،ذاكرة الجسد وهو انشغال ينعكس حتى على العناوين الفرعية لهذه القصائد.حيث الجسد يتحول إلى فضاء تتكوكب حوله حركة الفعل الشعري برمته ،وتغدو الذاكرة موشومة بكل ألوان القلق والحيرة والتردد والوجع والرغبة في تجاوز مهاوي السقوط التي تقود الكائن إلى هبوط لا نهاية له،رغبة تتدفق وتكبر وتصل الكائن بأحلامه،بعيدا عن الجهل والخنوع والجفاء،إذ يستحضر الشاعر صورة صاحبه:"يا صاحبي/أتخيلك رباطا متلاشيا /موصولا بجدران متهاوي/أفق..من هذا الجهل الرهيب"( عودة الكلمات...ص45).فالكائن قد يوقظه حلم،صفعة،جرج،سؤال الهويةوالأصل،رفض،إنصات لنداء الوجود....فيتحول الصوت/ القصيدة إلى هدية تعيد ترتيب جماليات هذا الكون التي تمهزلت.فتمتزج حركة الزمن بالقول وتغدو القصيدة المهداة لهذا العالم فرحا ولحنا جميلا وهو ما ترسمه قصائد الديوان في تماسك الرؤية التي تقدمها. اللافت للنظر في أعمال الخطيبي وما يعتمل في عالمه الشعري هو أن الجسد ينفتح على متخيل ثري بشكل يجعل سؤال الكتابة يتلبس بعناصر دالة على حضور هذا الجسد الواحد المتعدد،المحترق،الصارخ،المحروم،المغرب،العاشق، الراغب،العاجز،الصامت،،الهزيل ،المفرغ من كل مزية والفاقد لكل شهوة ... الجسد في شتى تمظهراته،الطفل /الرجل/الانثى يستعيد توازنه بصوت،ببوح ،بكلمات لا تقبل بما كائن،بل بما ينبغي أن يكون،وما ينبغي أن يكون ،تجاوز،وهدم لتلك الفجوة الجارحة بين الروح والجسد،إلا إن الجموح نحو الإتي تحد من حركته عودة إلى الذاكرة من جديد عبر التشكيك في فعل الولادة والبعث (لن تقبع عقارب الساعة ...ص 20)،ورغم عتمة الليل وانحسار الرؤية وهيمنة أجواء الحزن التي يعضدها المعجم الحزين فالجسد،في بعديه الفردي والجماعي،الثابت والمتحول، قد يحمل معاني الجمال في فضاء المدينة العام ،فيغدو منذورا لإضاءة هذه العتمة،عاشقا للوطن، حتى في اللحظات التي لا يتلبس فيها الزمن أي معنى ما (ص26). يصبح الجسد كل الأرض،في الواقع الذي يسع حياة الذات وبعدها في دواوين الشاعر مراد الخطيبي.في الحقيقة كما في المجاز تعرف الذات الشاعرة كيف تحوز الكلمات والزمن و عناصر الوجود والطبيعة التي أسندت لها صفات إنساية بهدف الإعلاء من شأن الذات و وصون الكرامة التي ضاعت على امتداد وطن كبير في بغداد وبابل وفاس والأندلس وحيث كل الأوطان التي تقود أو تعود بك إليها الكلمات وكأن هذه الذات بمثابة كائن أسطوري أو ثور خرافي ..لا ينام،وهو الذي يقول عبر لعبة النفي الدرويشية أوالبياتية أو المجاطية،"وأنفض الغبار..../وأتأسف ..ولا أنام /وأتحسر..ولا أنام " (هسيس الذاكرة ،ص،54). إن ديدن الشاعر مراد في هذا المساق وها يشكل عصب تجربته الشعرية ،عنايته باللغة و الحرص على صدق المشاعر،وكتابة تخفي سرا لتضعه رهن إشارتك لا لكي تتعثر به بل ليشعرك بوجود الحياة في مكان ما ينبغي أن تعبره ،مبتسما ولو أمام عري الجسد وشرنقة الزمن،والاغتراب فيه عشقا وموتا،وحياة ،وعجزا.وهو الذي رأى ما أراد: ما أحلى الابتسامة على جسد عار إلا من رواسب الزمن الذي أفل أو وشم..مضيء...لم يخدش أو يزل.(هسيس الذاكرة ،ص9 ) تحتشد العديد من الصور والمشاهد في قصائد الخطيبي تؤسس لتجربة شعرية يتعامد فيها الجسد والذات والذاكرة و الحلم والموقف من الوجود بشكل يجعل من الجسد موكبا من المعاني والدلالات ،جسدا فينومينولوجيا يكشف عن قدرة الذات في الإدراك والمعرفة بأسئلة الوجود ،حيث تستعيد الذات القلقة في الزمان والمكان جوهرها وتماسكها من خلال الحفر عميقا في الذاكرة والحنين إلى تفاصيلها في القصيدتين اللتين تتصدران ديوان هسيس الذاكرة. إذ أن الذات الشاعرة المغتربة اليتيمة تستقطب كل المتناقضات فهي الرضيع ،العاشق،الحائر،العبد،السيد،السجين الأمير الذي يصنع إمارته من كلمات.فالذات التي تصوغ قولها شعرا رغم إحساسها العنيف بالمرارة والتشظي والوجع والاغتراب ....فهي تحمل شهادة بازغة على أن من حقها التساؤل معتبرة الصمت احتجاجا ،إذ يدعونا الشاعر إلى التأمل قائلا :" من قال أن الصمت أخرس" (هسيس الذاكرة ص19) وهي نفس الصورة التي تحملها رؤيا الشاعر في قصيدة "يحترق اللسان". من هذا المنظور يشهد الجسد انكسارات الذات ويحضن ذكرياتها .إنه ملاذ الذات التي تستعيد ولادتها عبر الكلمات ،فالذات تحلم،تفترش الجسد،تنشد الدفء يأخذها الحنين تارة وانتظار ولادة ثانية .علاوة على ذلك تصبح اللغة سرا من أسرار فهم هذه التجربة الشعرية،إذ تعتبر الذات الكتابة رسما بالكلمات ، ذاكرة تستعيد وتشهد وتؤرخ كما يتكشف ذلك في قصيدة "هجرة الكلمات" التي تتناص بشكل كبير مع قصائد ديوان الشاعر (عودة الكلمات إلى مرقدها الأبدي)، يقول الشاعر : عادت الكلمات إلى مرقدها... الأبدي رافضة للعتمة (هسيس الذاكرة ،ص 32). ولئن كان الشاعر ينوع معجمه الشعري، الدال على الجسد ،حسيا وتجريديا ،ويستقطب لدائرة عقله وقوله الشعريين- بحمولتيهما الدلاليتين حسب يمنى العيد وخزعل الماجدي- زمنا اختلافيا يعيد من خلاله تشييد معنى للكائن البشري ،فإنه يظل مأخوذا إلى الاندهاش بنعمة اللغة وما تسوقه التراكيب من عوالم ولحظات يلتقي فيها حب الشعر والرغبة في الإعلاء من دوره في تجاوز العتمة من جهة،و الوعي بأسئلة الكتابة كحافظة لمخزون الذاكرة والتاريخ ،الكتابة كوشم،كنقش بالكلمات والرموز . كتوزيع بصري للجملة الشعرية على جسد النص ...وهذا ليس غريبا على شاعر نذر نفسه للكتابة كقدر" ساقتسم الزمن المتبقي مع الكلمات /نتجدد..ونحيا معا"( هسيس الذاكرة ،ص46) اغتنت ذاكرته من سيول الشعر والفكر العربين والغربين. .هكذا قد أكون قد فتحت نافذة أولى للإطلالة على تجربة تستعيد عالمها بالصمت ثارة و الاحتجاج ثارة أخرى.صمت الذات واحتجاجها في حياتها الخاصة أوبين الناس.