من أنشطة طلبة منتدى التاريخ والتراث بكلية الآداب بعين الشق نظم منتدى التاريخ والثقافة التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق بالدار البيضاء، لقاء حول موضوع «تاريخ المغرب والصحافة الورقية»، بمشاركة الأساتذة خالد الناصري والحسين الشعبي ومحمد الوافي ومعروف الدفالي ونجيب تقي. وفي الكلمات الافتتاحية لهذا اللقاء الثقافي، أوضح الكاتب العام للكلية، عبد الرحمان بن الباشا، الأهمية التي يكتسيها موضوع تاريخ المغرب والصحافة الورقية، بالنظر إلى أنه موضوع الساعة، حيث من خلاله يظهر مدى حاجة الصحفي والمؤرخ لبعضهما البعض، مذكرا بأن جرائد اليوم باتت تخصص صفحات كاملة للتاريخ بمختلف أزمنته، إيمانا بأن أمة بدون تاريخ لا مستقبل لها. محمد ياسر الهيلالي: الصحافة "حارة" والتاريخ "بارد" وذكر رئيس شعبة التاريخ بنفس الكلية، الدكتور محمد ياسر الهلالي، في كلمته الافتتاحية، أنه لا أحد ينكر وشائج القربى والتقاطعات القائمة بين الصحافة والتاريخ خاصة في إطار ما أصبح يسمى بتاريخ الزمن الراهن، إذ لم يكن هذا النوع من التاريخ في بدايته إلا إنتاجا مباشرا للصحافة الاستقصائية التي احتكرته قبل أن يقتحم المؤرخ مواضيعه وقضاياه. ذلك أن الإنتاج الصحفي ذا الطابع التاريخي لم يلق في بدايته استحسانا من قبل المؤرخين المحترفين تماهيا مع الرأي السائد بأن الصحافة "حارة" والتاريخ "بارد" بالمعنى المجازي. ومعلوم أن الإنتاج التاريخي لعدد من الصحفيين البارزين، يقول المتحدث، بلغ ذروته في أواخر ستينيات القرن العشرين، وحظي هذا الإنتاج برواج واسع، وتعاظم الطلب عليه مما شجع الصحفي الشهير (Jean Lacouture) على إصدار سلسلة عن دار (Seuil) عنونها ب "التاريخ الفوري"(Histoire immédiate)، وقد تجاوز إنتاجها مائة إصدار، وكان هذا مما استفز بعض المؤرخين، ودعاهم إلى اقتحام حقل التاريخ الفوري لما له من ثقل وتداعيات وازنة. رغم أن الصحفيين الذين أنتجوا مادة ذات بعد تاريخي لم يدعوا أنهم مؤرخون، ولم ينسبوا الصفة التاريخية لما أنتجوه. وبالتدرج، ولج حقل الصحافة عدد مهم من المؤرخين المحترفين ذائعي الصيت.. وأكد الهلالي أنه مثلما ظهر مصطلح الصحفيين المؤرخين، لم يلبث أن ظهر مصطلح المؤرخين الصحفيين، وأضحت الفوارق تقل بين الطرفين، فكلاهما، حسب رأي عبد الله العروي، "يعتمد على مخبر، وكلاهما يؤول الخبر ليعطيه معنى".. والأهم من هذا، يضيف المتدخل، أن عددا من المؤرخين أقروا بفئة من الصحفيين كانت مهتمة بالتاريخ، فئة يمكن أن تنهض بدور كشافي التاريخLes éclaireurs de l'histoire من خلال تجميع البيانات وترتيبها... خالد الناصري: الصحافة وكتابة التاريخ: أي تفاعل؟ الصحافة وكتابة التاريخ في نظر وزير الاتصال السابق وعضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية خالد الناصري، مهنتان تنيران الطريق للجميع، غير أن ما يميز الصحافي الذي يشتغل على التاريخ عن المؤرخ، أن الأول يفتح عوالم المادة التاريخية بشكل يبعده عن وظيفته الإعلامية لينخرط في حقب بعيدا عن الواقع الآني، في حين أن المؤرخ ينزل من برجه العالي المتجسد في حفريات الماضي وتأليف الكتب والمجلدات ليتحول إلى صحفي متخصص في الكتابة التاريخية. وأوضح الناصري كذلك أن شرعية الصحافي الذي يمارس الكتابة التاريخية تتجسد في إضاءة الماضي لفهم الحاضر، فالكتابة التاريخية لا تتوقف عند سرد التاريخ بل تتجاوز الرواية السردية لمساءلة الوقائع. الكتابة التاريخية تتأتى بالتبصر والابتعاد عن الذاتيات وعدم التساهل مع أخلاقيات مهنة الصحافة، بدون ذلك لا يمكن للكتابة الصحافية أن تكون مؤهلة للرجوع إليها من أجل الوقوف على الدلالات التاريخية. وتكمن صعوبة الصحافة التاريخية، حسب المتدخل، في كون شهادات الشهود التي يتم الاعتماد عليها لكشف الحقائق التاريخية، غالبا ما تتحكم فيها القراءات الذاتية، مما يتطلب توخي الحذر واليقظة وإعمال الروح النقدية العلمية. كما ذكر المتدخل أن المغرب له باع طويل في الكتابة التاريخية وأن الخزانة المغربية تزخر بمراجع لفطاحل المؤرخين، تشكل محطات منيرة في ما يخص إثبات حرية التعبير. واعتبر أن كتابة التاريخ الحديث تعد أصعب من كتابة التاريخ القديم، على اعتبار أن الذاتيات والانفعالات تشكل نواقض موضوعية، سيما حينما يكون الفاعلون في هذا التاريخ لا يزالون أحياء. ولم يفت المتدخل الإشارة إلى أن هناك محطات أساسية في تاريخنا الحديث، تنتظر من يفك رموزها، وهو ما يتطلب الجرأة والمقاربة المنهجية لبلوغ المقاصد، والاحتراز من قراءة الماضي بعيون الحاضر. محمد الوافي: صحافة الاتحاد المغربي للشغل أكد عضو الأمانة العامة للاتحاد المغربي للشغل، محمد الوافي، أن صحافة الاتحاد لم تكن ترفا، بل انخرطت إلى جانب القوى الوطنية في الصراع ضد المستعمر، ومع بداية الاستقلال قام الاتحاد بمغربة صحافته، فظهرت أول أسبوعية، وكان عنوانها الطليعة، وكان هناك صراع سياسي، مما أدى إلى منع هذه الصحافة ومحاكمة مدرائها. وذكر أن العديد من رموز الصف التقدمي، اعتمدت على صحافة الاتحاد للتعبير عن مواقفها. وأشار المتدخل كذلك إلى قلة البحوث التي تنصب على صحافة الاتحاد المغربي للشغل. وزف المتدخل في ختام عرضه خبرا مفاده أن مكتبة الاتحاد ستفتح قريبا أمام العموم، للاطلاع على ما تزخر به من وثائق نادرة. الحسين الشعبي: الحدود بين التاريخي والصحافي ذكر الكاتب الصحافي الحسين الشعبي، رئيس تحرير بيان اليوم، أن تاريخ الصحافة الورقية مليء بالألغام، وأن الخوض فيه يتطلب الاحتياط. وتوقف الشعبي عند الحدود بين التاريخي والصحافي، مذكرا بأن الصحافة الورقية لعبت دورا في مواكبة تاريخ المغرب المعاصر، على امتداد مائة سنة الأخيرة، وأنها وثقت للأحداث المغربية السياسية، بما تزخر به من صراعات عبر عدة محطات، وتتجسد هذه الكتابة الصحافية التاريخية، في عدة مستويات: نقل أحداث سياسية ومجتمعية، توثيق ذاكرة الأمكنة، وذاكرة الشخصيات العمومية التي صنعت تاريخ المغرب المعاصر، وتوثيق أيضا لذاكرة قيم وعقلية المغاربة.. كما أن هناك حيزا وافرا في الصحافة الورقية، يوثق لثقافة المغاربة التي تنتصر لحقوق الإنسان. مذكرا بأنه في الصحافة بمختلف أنواعها، يتم اللجوء إلى المحلل السياسي، سواء كان مناضلا سياسيا أو خبيرا في علم السياسة والاجتماع.. ليس فقط لأجل توثيق الحدث السياسي، بل من أجل قراءته وتحليل أبعاده وتداعياته مع اختلاف المقاربات والمناهج. المؤرخ في اعتبار المتدخل يوجد في مرتبة أعلى من الصحافي، على اعتبار أنه كائن ثقافي وفكري، يعمل بأمانة وينشد الحقيقة، في حين أن الصحافي ليس له بالضرورة الأهداف نفسها، إذ ينشد الخبر الذي يرتكز على الإثارة، والذي يستأثر باهتمام القارئ، في وقت يكون من المفروض عليه أن يلتزم الحياد والتوازن. فعند محاورته لفاعل سياسي، عليه أن يكون له إلمام بالمعرفة السياسية، لكي يستطيع أن يجر لسان مخاطبه ليدلي بالخبر الجدير بالذكر والانتباه. وخلص المتدخل إلى أن الصحافة اليوم، تتسم بالتنوع والتفاوت في المقاربات المهنية، حيث انتشرت صحافة تتأسس على نشر الفضائح والمس بأعراض الناس، والأكاذيب والنميمة، لا يهمها غير جيوب المواطنين، وبالتالي لا يمكن أن ننتظر منها أن تلعب الدور البيداغوجي والتنويري الذي لعبته الصحافة الوطنية الجادة منذ مطلع الاستقلال إلى اليوم. وانتهى المتدخل إلى القول إن الصحافة الورقية، بالرغم مما قد يبدو للبعض أنها مهددة بالانقراض بسبب تنامي وسائط الاتصال الجماهيري السريعة والحوامل الإلكترونية واسعة الانتشار، إلا أنها ستظل تلعب دورها في التواصل مع الناس والمجتمع، وستظل تساهم في القيام بدور التأريخ والتوثيق، وستظل قائمة لن تتعرض للزوال ولا للانقراض، على اعتبار أنها ليست مصنوعة من ورق جاف أو من كرطون بل هو ورق تدب فيه الروح والحياة. معروف الدفالي: صحافة الحركة الوطنية توقف الأستاذ معروف الدفالي عند التباين القائم بين الصحافي والمؤرخ، فالأول يعد مؤرخ الحاضر، في حين أن الثاني هو بمثابة صحافي الماضي. كما أشار في هذا السياق إلى أن الخبر لدى الصحافي هو الأساسي، في حين أن ما يهم المؤرخ بالدرجة الأولى هو الخبر، وأن لكل واحد منهما أدواته الخاصة للتعامل مع الحدث والخبر. وتوقف المتدخل عند نشأة الصحافة، منذ مصر الفرعونية، حيث كانت تتم الكتابة على ورق البردي، مرورا بالإمبراطورية الرومانية، حيث كان يتم الاعتماد على الصحافة لنقل أخبار الحروب والألعاب الرياضية، والمسرح، وأخبار علية القوم. غير أن ظهور الصحافة بمعناها الحقيقي انطلق مع إنشاء الطباعة، وتعتبر ألمانيا نجم هذه الصحافة، حيث أن أول صحيفة تم طبعها كان سنة 1605، وكان ذلك في ألمانيا. أما في البلاد العربية، لم تظهر الصحافة إلا مع الحملة النابولونية على مصر، وكانت تتسم في بدايتها بأنها رسمية تنشر القرارات والقوانين المتعلقة بالسلطة، غير أن أول صحيفة أنشئت خارج السياق الرسمي، كان ذلك في لبنان، سنة 1850، وبموازاتها ظهرت الرقابة. وفي المغرب، حتى حدود القرن التاسع عشر، كان هناك غياب للصحافة، وأن أدوات التواصل التي كانت سائدة آنذاك، كانت تنحصر في إطار أشخاص وأماكن معينة: البراح، المسجد، الزاوية، الرقاص أو ساعي البريد، القوافل التجارية، الحلايقي.. وذكر المتدخل أن بداية الصحافة في المغرب، ظهرت مع الاستعمار، في منتصف القرن التاسع عشر، وأنها كانت تنطق بمصالح اللوبيات الاستعمارية الفرنسية والبريطانية والإسبانية، لإظهار عيوب المغاربة وتهييئهم نفسانيا ليصبحوا مستعمرين للخروج من التخلف. مع عهد الحماية، ظهرت صحافة وطنية في مواجهة الصحافة الاستعمارية، وكان بارزا الأثر القوي للصحافة الشرقية على صحافة المغرب. وكانت هذه الصحافة خطية تنسخ باليد، وتوزع بشكل سري، على اعتبار أن الاستعمار كان يمنع إصدار صحف بالعربية. وكان الهم الرئيسي للمشرفين عليها هو التنوير والمحافظة على الدين الإسلامي، والبعد الوطني، والتقارب مع الفرنسيين ونقد المجتمع. غير أن الصحافة المغربية بمعناها الحديث لم تتحقق إلا في بداية الثلاثينات، مع الحركة الوطنية وتعاطف اليسار الفرنسي معها، وكانت أول صحيفة ظهرت على هذا المستوى حملت عنوان "المغرب"، وكانت تصدر بالفرنسية، كما ظهرت صحيفة "حركة الشعب"، بالفرنسية كذلك، وكانت الرقابة الفرنسية مسلطة على هذه الصحافة. وعند تعرضها للمصادرة والمنع في ذلك الإبان، أقيمت مظاهرات للمطالبة بحرية الصحافة، وتقرر بذلك الحق في إصدار صحف بالعربية، وظهرت صحافة حزبية، وصارت الساحة الإعلامية تتسم بالتعدد. وقد لعبت هذه الصحافة دورا مهما في توثيق تاريخ الحماية. غير أنه في يومنا الحاضر- حسب ما خلص إليه المتدخل- تراجعت الصحافة، من حيث الأسلوب والمنهج، كما أنها لم تعد مطبوعة بتلك النزعة النضالية التي كانت سائدة في بداياتها. نجيب تقي: مجموعة ماص في مغرب الحماية انصبت مداخلة الأستاذ نجيب تقي على مجموعة ماص، باعتبارها مؤسسة هيمنت على قطاع الإعلام في مغرب الحماية، إلى أن عوضتها ماروك سوار في بداية السبعينات. تحدث المتدخل عن ظروف تكوين مجموعة ماص، موضحا أنها كانت خاضعة لأسرة فرنسية في بداية العشرينات، وأنها استطاعت أن تجد لها موطئ قدم بالمغرب، في إطار تنافس مع ألمانيا، حيث استثمرت أموالها في عدة قطاعات، من بينها الصحافة، وشكلت بذلك امبراطورية الصحافة الفرنسية بالمغرب. غير أن هذه المجموعة واجهت خطر التفكيك سنة 1940 عند سقوط النظام الديمقراطي في فرنسا، وبروز نظام موال للنازية، ولأجل أن تحافظ مجموعة ماص على مصالحها، كيفت مواقفها مع هذا النظام، مما جعلها في وضع حرج. حيث تمت الدعوة لحجزها، كما تم وضع مديرها تحت الإقامة الجبرية، ولأجل إخراج المجموعة من مأزقها، تم الاستنجاد بأسماء لها وزنها في ذلك الإبان والتي لم تكن تتلون باللون النازي. وفي خضم هذه التحولات، صدر ظهير بشأن تنظيم الصحافة، وكان المستهدف منه هو مجموعة ماص، مما أدى إلى إحداث تغييرات على البنية الأساسية للمجموعة، مع ذلك ظلت هذه المجموعة حية بعد الاستقلال، حيث اجتهد مسؤولوها في كسب ود الدولة المغربية، عن طريق إغراء وإرشاء المسؤولين الجدد، وتمكنت من الاستمرار في نشاطها إلى حدود بداية السبعينات. تجدر الإشارة إلى أن هذا اللقاء الثقافي تميز كذلك بتكريم اسمين بارزين في ساحتنا الثقافية والفكرية، الأستاذ خالد الناصري الذي سبق له أن شغل منصب وزير الاتصال، ومحمد رزوق، أستاذ التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء، حيث تم تسلميهما درع التكريم، اعترافا بما أسدياه من خدمات جليلة في مجال البحث الأكاديمي الرصين. **** الصحافة وكتابة التاريخ: أي تفاعل؟* خالد الناصري إن اختياركم لموضوع تاريخ المغرب والصحافة الورقية، جعلكم تنفتحون على فضاءات رحبة مازالت تنتظر المستكشفين للغوص في نقط التماس فيها والتي يلتقي فيها جنسان في الكتابة يتوفر كل واحد منهما على مقوماته المهنية المتميزة، هما جنس الكتابة الصحفية الخاضع بطبعه لإكراهات المواكبة الإعلامية اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية من جهة، وجنس الكتابة التاريخية التي يفترض أنها تنصب على حقب خلت من جهة أخرى. فليس الموضوعان المتفردان هما وحدهما اللذان ينزلان بخصوصياتهما، وإنما كذلك مميزات الصحفي من جهة والمؤرخ من جهة أخرى. ومع ذلك نرى الصحافي يقتحم عوالم المادة التاريخية، الأمر الذي يبعده شيئا ما عن وظيفته الإعلامية لينخرط في فضاءات حقب قد ذهبت بعيدا عن مسايرة الوقائع الآنية، كما نرى المؤرخ ينزل من برجه العاجي المتجسد في الحفريات في أوراق الماضي البعيد أو القريب وفي تأليف الكتب والمجلدات، ليتحول إلى صحفي متخصص في الكتابة التاريخية. ولقاؤنا اليوم يبحث بالضبط في هذا التقاطع. 1 – تساؤلات نظرية إن أصل شرعية اهتمام الصحفي بكتابة التاريخ بصفة عامة، مرده الحاجة إلى إضاءات الماضي لفهم الحاضر واستقراء المستقبل بعيدا عن قراءة الفنجان، وهذه مهمة لا يتقنها لا الصحفي ولا المؤرخ. لكن يجدر بنا الإقرار بأن كل الكتابات المخصصة لاستحضار وقائع الحقب الغابرة لا ترقى إلى مستوى كتابة التاريخ. كما يجدر بنا أن نلاحظ أن الحدث (الذي يشكل المادة الخام لعمل الصحفي) ليس هو التاريخ والتاريخ لا يتوقف عند سرد الحدث، ذلك أن كتابة التاريخ تعني الولوج إلى معاني الأحداث وإلى التفاعل القائم فيما بينها، أي إلى تجاوز الرواية السردية لمساءلة الوقائع. إن هذا يطرح علينا تساؤلا عريضا: هل الصحفي شاهد على عصره، وهل جميع الكتابات الصحفية مؤهلة ليتم الرجوع إليها لاحقا لاستجلاء دلالاتها؟ هذه أسئلة لن أتجرأ للإجابة عنها تاركا الموضوع لمتانة تحليل وحصافة تقدير الصحفيين بأنفسهم وللمؤرخين، وأضيف، ما دمت أتحدث إليكم من منبر أكاديمي، أهل البحث العلمي وأهل التدريس الجامعي. قد أقبل، وإن على مضض، أن يسمح الصحفي لنفسه أن يتجاوز ضوابط الكتابة الإعلامية، لكنني ألح كثيرا على أن الكتابة التاريخية لا تتم إلا في كنف التبصر والواقعية والصراحة، كما لن تتأتى إلا بالابتعاد منهجيا عن الذاتيات وخدش ذاكرة الأمم، (دون أن يفهم من كلامي أي تساهل مع مستلزمات تقيد الصحفي بأخلاقيات مهنته). إنه لتمرين عسير للغاية لأن الكتابة التاريخية، خاصة ما تعلق منها بالتاريخ القريب، في حاجة حيوية إلى شهادات الشهود للكشف عن الحقائق، بيد أنهم لا يتحدثون عادة إلا عن «حقائقهم» التي تتحكم في صياغتها وبلورتها قراءاتهم الذاتية، مما يجعل الموضوع صعبا جدا، ويتعين علينا، كيفما كان الأمر، أن نظل حذرين، يقظين حيال هذا النوع من الانزلاقات التي لا يتم تطويقها إلا بإعمال الروح النقدية العلمية. 2 – تأملات مغربية للمغرب باع طويل في المجالين الإعلامي والتاريخي، فقد أنجب مؤرخين فطاحل أغنوا المادة التاريخية بحفرياتهم وبحوثهم ومؤلفاتهم، مما يجعل الخزانة المغربية تزخر بأمهات المراجع، كما أن للمغرب تراكمات قيمة في المجال الإعلامي، وهو الذي مسجل له أنه احتضن أولى الصحف الورقية وهو لا يزال دولة مستقلة، ضعيفة ولاشك، ولكنها وفرت الظروف، مع ذلك، لبروز منابر إعلامية قبل حتى دخول الاستعمار في عباءة الحماية المحتشمة. وعبر محطات تاريخية معقدة وصعبة، مرتبطة بمستلزمات الانفتاح الديمقراطي الذي كلف بلادنا الكثير والكثير، عبر تلك المحطات فرضت الصحافة الورقية تدريجيا نفسها، محمولة في بداية الأمر من لدن الأحزاب الديمقراطية والتقدمية التي صمدت سياسيا وإعلاميا. هذه الملاحظة تحيلنا على حقيقة ثابتة، هي أن كتابة التاريخ الحديث أصعب بكثير من كتابة التاريخ الذي يضرب في عمق القدم لأن الذاتيات والانفعالات والعواطف، وكلها نواقض الموضوعية، تظل مداخل لا مفر منها عند مساءلة صفحات الماضي القريب، لأن الفاعلين فيه مازال عدد منهم أحياء يرزقون. أقو ل إن محطات أساسية في التاريخ الحديث تنتظر من يفك رموزها، أسوق هنا نماذج منها على سبيل المثال لا الحصر: - كيف كان المغرب ليلة تسلط الاستعمار الفرنسي عليه سنة 1912؟ - ما الذي يفسر السهولة النسبية لفرض الحماية على بلادنا آنذاك؟ - ما الذي وقع فعلا في ما سمي أحداث الريف سنة 1958؟ - كيف نقرأ ونفهم الصراع الذي قام في بداية الاستقلال بين القصر وبعض الأحزاب السياسية؟ - هل التعددية الحزبية خلقها الدستور الأول سنة 1962 أم اكتفى الدستور بالإقرار بأمر حاصل؟ - ماهي الأسباب الحقيقية لسنوات الرصاص ومن المسؤولون عنها؟ - لماذا انتظر المغرب إلى غاية 1974 ليطالب بشدة باسترجاع صحرائه؟ - كيف تم التحضير للتناوب التوافقي في 1998؟ وهل العرضان الملكيان لسنتي 1993 و1994 كانا فعلا يستدعيان الرفض؟ إنها وغيرها، ملفات مطروحة على طاولة النقاش ويتناوب الصحفيون والمؤرخون على ملامستها بما يلزم من الجرأة، وأنا أرحب بها... وهنا تطرح أمامنا مسألة المقاربة المنهجية الواجب توظيفها لبلوغ مقاصدنا، ويتعلق الأمر أساسا بضرورة الاحتراز من عدم استحضار الماضي للحكم عليه صراحة أو ضمنيا باستعمال آليات الحاضر ومرجعياته وبديهياته. يجب الاحتراز في رأيي من قراءة صفحات الماضي عبر نظارات الحاضر حتى وإن كانت هنالك مجموعة من المبادئ والقيم الخالدة والتي لا يمكن أن تتأثر بفعل انتماء الأحداث المدروسة إلى عهود خلت. وذلك بالضبط ما حصل مع بداية الألفية الجديدة عندما تأسست هيئة الإنصاف والمصالحة تمهيدا لطي صفحات الماضي الظالمة والمظلمة، لكن بعد قراءتها قراءة جماعية متأنية لعب فيها الصحفي والمؤرخ والفاعل الحقوقي والسياسي أدوارهم بكثير من الجرأة والمسؤولية والتفاعل والشجاعة. هذه بعض التفاعلات بين الصحافة وكتابة التاريخ سقتها أمامكم كرؤوس أقلام. *مداخلة الأستاذ خالد الناصري في ندوة كلية الآداب عين الشق بالدار البيضاء «تاريخ المغرب والصحافة الورقية: في مرآة الماضي» 4 ماي 2015