النازح والمدينة (طنّو) ذلك القرويّ البسيط والدخيل الذي نزح من المدينة في منتصف الثمانينات حين جاء مع عائلته من أطراف الاهوار بعد ان باعوا جواميسهم وقواربهم أثناء حرق قصب البردي وتجفيف الاهوار كي يستقروا في المدينة أخيراً. استيقظ طنّو في الصباح الاول وسط صخب المارة والعجلات والتي لم يألفها في السابق وكان مندهشاً جداً وهو كان يسير خلف عائلته بدشداشتة الوحيدة والقصيرة والتي توارثها من أخيه الاصغر في العائلة.. طنو كان دائماً حافي القدمين يتلفت بجميع الاتجاهات بقلق وبسرعة.. وقد سمعته يبوح بصدمته وانبهاره لدى مشاهدته لعمران المدينة في اليوم الاول الذي نزح فيه الى الناصرية.. وكانت أكثر الاشياء التي صدمته هي مشاهد السيارات والارصفة وشوارع الاسفلت..وهو كان يقول مستغرباً «الله بدخلك حديد ويمشي «.. عاش طنّو بعد ذلك مترددا وخائفا وهو يلقي السلام بسرية ومجاملة قلقة الى ابناء بعض المحلة لانه لم يثق بهم كثيراً بسبب سخرياتهم الكثيرة منه ومن عائلته.. ثم استهوته فيما بعد عادة استجداء السجائر من المارة رغم انه لايدخن لكنه كان يجمع ويعبأ السكائر في داخل علبة حليب نيدو كبيرة وفارغة كان يخفيها وراء التنور الطيني فوق السطح الدار. وقد أخبرني صديق من محلتنا وكان جاراً لبيت أهل طنو أنه كان بحاجة الى سكائر ذات ليلة سمر مع الاصدقاء. لاسيما أثناء فترة الحرب العراقية الايرانية والتي كانت فيها شحة سجائر في العراق، مما اضطر به أن يتسلق فوق سطح بيت طنو كي يسرق العلبة المملوءة بانواع السجائر المتعددة الماركات من محلية ومستورة ويوزعها على ضيوفه.. وفي الصباح الثاني حين اكتشف طنو السرقة خلع يشماغه واشرأب بعنقه نحو السماء شاكياً ولطم على راسه فوق رصيف الشارع. وهو كان يردد بنواحه..»طلعوا أهل الولاية حرامية» !!! رمضان التركي ذات ظهيرة مررت بمحاذات محل التركي العبوس رمضان وكان يبدو وكآنه من بقايا الجندرمة العثمانيين الذين هاجروا من مدينة اسطنبول الى مدينة ملبورن في استراليا كان رمضان يعتقدأن الضحك هي صفة معيبة والابتسامة في قاموسه هي عقوبه مثل دفع ضريبة.. أو القيام باعمال شاقة. وكنت أتخيل هذا العبوس العثماني اذا ابتسم يوماً ما فربما خديّه سوف ينفطريّن مثل الطين المفخور حين يتعرض للكسر!! وكنت أتخيل مدى عدائه للضحك فحتى لو دغدغ مخلب آلة الرافعة أبطية فلن يؤثر ذلك عليه أو يمنحه ولو ابتسامة عابرة!! عادة ماكنت أتردد على دكان رمضان فكنت أراه أماأن يكون نائماً بجسده الضخم فوق الكرسي الذي يوشك أن يتهاوى من ثقله وشخيره الذي يسمعه المارة القريبين من بوابة المحل. أو أن يكون منهمكاً بالاكل بشراهة دون توقف. كان رمضان يبيع من محله وبشكل سريّ وغير قانوني زجاجات الخمر وهو فقط يتعامل مع اشخاص قلائل يثق بهم. وفي احدى أيام شهر رمضان ذهبت لشراء قنينة ويسكي من دكانه وقد كانت جدران المحل كالعادة مليئة بالآيات القرآنية والاحاديث النبوية والتي كان يكثر من توزيعها فوق الجدار لاسيما في هذا الشهر.. فنظر اليّ بوجة أكثر عبوساً مما آلفته سابقاً، وقال لي «أخ ممكن تاتي في المرة القادمة بعد الافطار فانا صائم وحرام البيع قبل الافطار» طيب هذه أخر مرة تأتي بها الى المحل في شهر رمضان قبل الافطار. أخبرني بذلك وهو كان يخفيّ بزجاجة الويسكي في كيس معتم تحت وكانت تسعيرة زجاجات الويسكي حسب عرف البائع رمضان لا تخضع الى جودة ونوعية الويسكي وأنما ثمنها يتبع عبوة الزجاجة.. فالسعر المتعارف عليه 25 دولار لعبوة 700 ملم و35 دولار للتر الواحد!! يوسف اليهودي في مدينة بيرث- غرب استراليا تعرفت على شيخ يهودي من أصل عراقي يعيش وحيداً دون أسرة ولد يوسف في البصرة ابو الخصيب ثم هجر قسراًعام 1948 مع اسرته الى اسرائيل.. وفي عام 1963 غادر اسرائيل وجاء الى استراليا. ومنذ وصوله الى جزيرة الحليب والعسل كما كان يصفها المهاجرون.. عمل طيلة وجوده في المصانع وفي أعمال مختلفة. وقد جمع ثروة ربما تجاوزت المليون دولار. وكانت الصفة الوحيدة التي تجمعني فيه هو حبه للعراق فقد كان يبكي حين يتذكر البصرة التي ولد بها وكانت امنيته ان يعيش بقية حياته ويدفن في أرض البصرة. اما شخصية يوسف السلبية الاخرى فقد كان بخيلاً وكأنه احد شخصيات بخلاء الجاحظ !!! وكان يوسف يخشى أن يشتري مسكناً خاصاً به فهو كان يفضل السكن في غرف رخيصة في سكن جماعي وكان يوسف يخزن المواد الغذائية والسجائر في غرفته ويبيعها على المؤجرين حين يحتاجوها عندما تغلق المحلات ابوابها. مرة قدمت الى يوسف سيكاره فاخذها ووضعها في جيبه. قال لي انه لايدخن السجائر فذكر لي تجربته الاولى والاخيرة حين كان شاباً فراودته نفسه أن يدخن سيكارة.. وبالفعل دخن سيكارة بور سعيد فأنتعش برائحتها ودخانها حين كان يجلس في مقهى.. ثم وبخ نفسه فيما بعد قائلاً.. يا يوسف احذر ان تنخرط في طريق التدخين او الذهاب الى المقاهي فهي سوف تكلفك اموالاً كثيرة حين تحسبها على مر الزمن القادم. في احدى المرات سألت يوسف عما سيفعله بأمواله الكثيرة وهو دون عائلة.. وهنا في استراليا الشخص الذي يموت دون وريث سوف تذهب أمواله الى البنك الذي يودع به حسابه المالي. ثم قلت له مازحاً أتمنى لو تسجل باسمي 5% من أموالك ضحك وقال كلا ياصاحبي لااستطيع رغم انك صديق عراقي طيب!! ثم قلت له ولم لاتكتب وصية لدى محامي أن تذهب أموالك الى أختك واولادها في اسرائيل.. أجابني محتجاً كلا لن أفعل ذلك. لان أختي كانت تحاسبني في كل افطار حين كنت صبياً كم بيضة تناولت هذا الصباح!!؟؟ ثم غادرت بعد ذلك مدينة بيرث الى لندن ثم رجعت الى ملبورن وبعد فترة سألت أصدقاء في بيرث عن مصير يوسف العراقي اليهودي .. فأخبروني انه اختفى ولا أحد يعرف عنه شيء!!! خادم الرصيفين في زياتي الاخيرة الى الناصرية عام 2009 وفي احد الامسيات التي كنا نبحث بها عن خمرة لم يكن من السهل أن نحصل عليها وسط المحرمات التي فرضتها اتاوات الاحزاب الدينية. وفي احدى الآماسي التي كانت تجمعنا فوق رصيف الحبوب ياشار ليّ صديق نحو شخص كان يسير بسرعة ويتلفت يميناً ويساراً وبالعكس والى الوراء ثم يتوقف للحظاتٍ امام زبائنه العابرين وهو يهمس لهم فيعطونه حزمة دنانير يعدها ثم يحشرها في جيوب بنطاله والقلق كان يبدو على ملامحه.. وهو يتنقل بين الارصفة. فأخبرني صديقي ان هذا الشخص يسمى (خادم الرصيفين) !! وهو يعرف منابع وحواضن بيع الخمرة في المدينة وتلك هي مهنته. فأخبرت الصديق برغبتي باحتساء بيرة (هنيكن). وحين تقربنا من خادم الرصيفين وأخبره الصديق عن بطلبي عن البيرة.. قال يدلل ضيفنا سوف أجلب بيرة هنيكن حتى لو تطلب ذلك مني مشقة السفر الى هولندا!! كريم شيشة ومن الشخصيات الظريفة في مدينة العمارة كان الاريحيّ (كريم شيشة).. وذات يوم طلب منه أحد الاصدقاء أن يجلب له قنينة زحلاوي.. ووعده الصديق ان يدفع له ثمن زجاجة العرق الاخرى لجهوده ومغامرته.. وكان الوقت عصيباً والاخوة مصنعيّ العرق وبائعية وعرابيه كانوا مراقبين.. لكن كريم شيشة أشار للصديق أن يتبعه فهو يعرف ان هنالك بيت احد أصدقائه الصابئة المختصين بتخمير العرق والمتاجرين به سراً. وقد عبروا النهر نحو الضفة الاخرى وقد وصف الصديق الرحلة الشاقة وكآنها رحلة كلكامش في البحث عن عشبة الخلود.وحتى وصولهم الى أطراف مدينة العمار .. طلب كريم شيشة من صاحبه أن يتنحى جانباً خشيةً من ريبة بائع الخمرة. وبعد لحظات جاء كريم شيشة وهو كان يخفي تحت سترته بقنينتيّن من الزحلاوي وكان العراب يحضن الزجاجتين وكأنهما ولديه التوأمين!!! فسار الصديق المتردد وهو يتعقب خطوات كريم شيشة على بعد أمتار كي يتسنى له الهروب اذا حدثت مباغته عاد كريم شيشة والصديقالى المدينة.. لكنأثناء السير المربك وقعت احدى قناني العرق فوق الرصيف فتحطمت بعد تلك الرحلة الشاقة. فصرخ كريم شيشة متذمراً (آه.. خطيه انكسر بطله)!!!