نحو ترسيخ ثقافة الاعتراف وتأسيس تقاليد جديدة في بناء الفكر واصلت رابطة الإبداع الثقافي بمدينة القصر الكبير برنامجها الثقافي الجاد بتنظيم لقاء فكري علمي احتضنته قاعة النادي المغربي مؤخرا بحضور ثلة من الأكاديميين المغاربة، وعدد من الباحثين والأدباء والإعلاميين، إضافة إلى فعاليات سياسية ومدنية ونقابية وحقوقية ومهتمين. اللقاء أداره الباحث محمد العناز الذي أكد على ضرورة ترسيخ ثقافة الاعتراف، وتأسيس تقاليد جديدة في بناء الفكر. منبّهاً إلى أن هذه الثقافة لن تكون مثمرة إلا بالاعتراف بالكتاب والنقاد والمبدعين، والاعتراف بجهودهم بما يقوي النقد والأدب المغربيين. ولا يكفي في ثقافة الاعتراف هذه –بحسب العناز- بتدبيج الكلمات ونسيانها وإنما بجعل هذا الاعتراف سلوكا مملموسا يتمثل في العلائق اليومية بين المبدعين والنقاد والمثقفين. فالاحتفاء بعبد اللطيف محفوظ وتكريمه علميا هو تأسيس لهذا الفهم لمسألة الاعتراف. إن هذا الرجل يشكل معبرا جادا نحو ثقافة الآخر فهما ونقدا استيعابا وإضافة. فهو منذ كتابة الأول:»وظيفة الوصف» لم يركن كغيره إلى استنساخ النظريات والأفكار أو نقلها والوقوف عند ذلك، بل كان شديد الوعي بما يتطلبه العصر من ضرورة تمرير ما يفد من نظريات عبر منطق السؤال، ومنطق الحوار حيث كل شيء يقام عنده على جدية لافتة للنظر. كلمة رابطة الإبداع الثقافي ألقاها الباحث الأمين الغزاوي الذي أكد فيها على أن مبادرة رابطة الإبداع الثقافي، كعادتها منذ التأسيس، وبشراكة نوعية مع شعبة اللغة العربية وآدابها بكلية آداب بنمسيك بالدار البيضاء تحرص على بلورة أحد بنود قانونها الأساس، المتمثل في ضرورة الانفتاح على كل الحساسيات الثقافية وأنماطها، بعيدا عن كل تقوقع شوفيني، لا يتخلص من جلابيب التصنيفات العرقية والسياسية/الحزبية والجنسية المقيتة، وضدا على إصرار دعاة «تجهيل» ساكنة مدينتنا، عبر ترييفها ورفض كل المبادرات الثقافية النوعية وتبخيسها، الهادفة إلى جعل التعلم الجاد حق كل فرد معتبرا أن الاحتفاء بأحد رموز نظريات الأدب ومرجعياتها الوطنية والعربية، الدكتور عبد اللطيف محفوظ، هو احتفاء بقامة وطنية وعربية على مستوى النقد الأدبي منوّها بقدرته الثاقبة على اقتحام عالم كبار النقاد ومناضدتهم، فكرا وإبداعا. مؤكدا على أن الرجل أضحى من أبرز أيقونات زماننا في مقاربة الكتابات الإبداعية عموما، والروائية على وجه التحديد، سيميائيا، إذ ليس صدفة أن تعتمد عدة جامعات عربية مشروعه هذا، كمبحث قار للدراسة والبحث. لينتهي إلى أنه إذا كان لأشقائنا في مصر «محفوظهم» النجيب، كروائي متميز، فإن لنا، كمغاربة «محفوظنا» اللطيف، المرجعي في نقد الرواية. لينطلق اللقاء بشهادة للأديب والأكاديمي عبد الرحيم جيران الذي عبر عن سعادته وفخره واعتزازه بتقديم شهادة في حق صديقه الذي جمعته به علاقة صداقة وتعاون بحثي قبل تعيينهما كل في مدينة، متذكرا مشروعهما في الاستفادة من مدرسة باريس، بعد أن انتهيا إلى خلاصة مفادها أن المعرفة السوسيولوجية التي كانت تقدم بصفتها الإمكان الوحيد لفهم النصوص غير كافية، فكان البحث المشترك في السيميائيات لعله يوفر فهم الأنساق المعرفية أولا، ثم فهم النسق الذي يتحرك داخله الواقع الموصوف بالانسداد، معترفا بأن طموحهما كان، وقتذاك، يتعدى قدراتهما، لكنه كان طموحا مشروعا، مؤكدا أنهما أدركا أن المنهج المنحاز إليه سيؤدي حتما إلى التفريط في ارتباطهما بألفة الإيديولوجيا التي كانا نتشرباها في كل دقيقة، لأن تغيير الواقع كان يلح عليهما بشدة، ولذلك كانت المزاوجة ضرورية بين منهج يؤسس نفسه على نحو علمي، وعلى ما هو إيديولوجي. بعد هذه المرحلة لم يعد التواصل قائما بينهما، يضيف د جيران، لكن ما اكتشفه في النهاية أنهما سينجزان أطروحتين متقاربتين من حيث الرؤية والمنهج رغم اختلاف الموضوع والخلفيات..مختتما ورقته بالإشارة إلى أن محفوظ اختار واجهة أخرى تتمثل في سيميائيات بورس، متجاوزا مسألة الإيديولوجيا بالبحث عن صدى المعنى من داخل المنهج الموحد الذي ارتضاه دليلا في عمله العلمي. ولم يكن في أطروحة دكتوراه الدولة مطبقا لتعليمات منهجية مؤسسة في سيميائيات بورس، بل مطورا، ومنتجا لتوجه خاص في تفكيك المعنى، وضبط آليات إنتاجه. في قراءته للمشروع النقدي للدكتور عبد اللطيف محفوظ اختار الدكتور أحمد الصادقي كتاب آليات إنتاج النص الروائي على اعتبار أنه يشكل بؤرة هذا المشروع فهو واسطة العقد،لأنه يطرح الأسس النظرية والمنهاجية الموجهة لهذا المشروع. وقد اختار في قراءته له المداخلة التالية :مقدمات من أجل قراءة فلسفية لمشروع الدكتور عبد اللطيف محفوظ النقدي للرواية وللأعمال الأدبية عموما .وقد جاء في مداخلته أن هذا الكتاب لا يقف عند تصنيف الأسئلة النابعة من أطروحته، وإنما يكشف عن خلفيتها النظرية وهي خلفية متعالية ومحايثة.الأولى مع لوكاتش وباختين والثانية مع شارلز ساندرس بورس.يأخذ عن لوكاتش تصوره لمفهوم الكلية الممتدة أي محايثة الجنس الأدبي للحياة وهي محايثة للمتبدي أو لشكل الوجود أو ظهوره،وأيضا للحكاية والحبكة السردية،وهو أمر يتعلق بشكل البناء. يعني أننا هنا أمام محايثة تحافظ على تعالي الجنس الأدبي إذ أنه بدون هذه المحايثة يتعرض المتعالي للانهيار.ويأخذ عن باختين مبدأ الانفتاحية وهو مبدأ يميز الجنس الروائي عن سائر الأجناس الأخرى.غير أن هذا المبدأ يطرح عددا من الأسئلة التي تجعل إنتاج النص في علاقة تضايف مع العالم،أسئلة تتعلق،مثلا،بمادة وشكل الرواية وجنس الكتابة فيها وقدرة هذه الكتابة على التحاور مع الأجناس الأخرى واستيعابها، مما يجعل من هذا المبدأ يتجه أكثر نحو التعالي.والحال أن محفوظ يريد أن يجعل من الانفتاحية أن لا تكون متعالية،وإنما أن تكون محايثة للإنتاج الروائي في كتابه هذا. فهو على سبيل المثال،عند حديثه عن النظريات التي تختزل النص في جملة وذلك مثل البنية الدالة عند غولدمان أو البنية الأولية للدلالة عند غريماس أو مدار الحديث عند علماء النص،يعتبرها الدكتور محفوظ نظريات متعالية تلقياتية إذ أنها تنتج مصطلحات تجعل المعنى مبنيا من طرف المتلقي فتلغي المنتج وتعتبر النص حصيلة التأثير،أي حصيلة تفاعل بين النص والمتلقي. لقد بين الصادقي أن مقصدية هذه الأطروحة تكشف عن أن النقد الروائي لا تكون له فعالية حقيقية إلا إذا قام على هذه السيميائيات التداولية، فضلا عن كونها أطروحة تطرح أسئلة هي من جهة توجه النقد إلى النظريات المتعالية في الوقت الذي تستفيد من إمكاناتها النظرية، وذلك ضمن المحايثة على اعتبار أن المتعالي ينهار إذا لم تحافظ المحايثة عليه. كما كشف الدكتور أحمد الصادقي عن الطابع العلمي لأطروحة الكتاب، وهو طابع مستفاد من المنطق والرياضيات والفينومينولوجيا، كي تصير أطروحة مركزها هو التمثل من جهة، و المتبدي من جهة ثانية. أما مساهمة رشيد الإدريسي فقد حملت عنوان صيغ التمظهر الروائي: من علم السرد إلى نقد المتخيل، وقد عمل من خلالها على توضيح الخلفيات التي تحكمت في المسار النقدي للأستاذ عبد اللطيف محفوظ، فبين أن المنهجية التي اعتمدها في أكثر من كتاب لم تتوقف عن التفاعل مع المنجز النقدي الحديث، مما انعكس إيجابا على منهجيته التي تتميز بالتعدد الذي يرجع إلى تعدد مستويات التحليل، وإلى إدراك أن لكل منهج حدود يقف عندها ليفسح المجال لمنهج آخر أكثر كفاءة منه، كما يرجع إلى طبيعة الكثير من المناهج التي تقوم على الاقتراض المفاهيمي. ولكون مؤلفات محفوظ في أغلبها أعمال تمزج بين التنظيري والتحليلي، فقد بين كيف أنه اعتمد في تحليله للكثير من الروايات آلية المقارنة، فشغلها من خلال توظيفه لعلم السرد ونقد المتخيل الذي ذهب إلى أنه منهجية اعتمدها في كتابه صيغ التمظهر الروائي، وظلت حاضرة في تفاعل مع نصوصه اللاحقة. وقد بين فيما بعد أنه على الرغم من أن الكتب المؤلفة في مرحلة تالية لمؤلفه صيغ التمظهر، تبنى فيها الكاتب مناهج سيميائية إلا أنه عمل في الكثير من الحالات على تفعيلها من خلال التفاعل الضمني مع ما ورد في كتابه الذي عمل المتدخل على تحليله من مختلف الزوايا. وفي الأخير تدخل الأكاديمي عبد اللطيف محفوظ مفتتحا كلامه باعترافه أن مدينة القصر الكبير تقيم في وجدانه، مستحضرا أستاذه الشاعر الراحل محمد الخمار الكنوني وعدد من أعلام القصر الذين تعرفهم وأحبهم. لينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن ثلاثة بصموا بقوة مساره النقدي، أولهم صديقه عبد الرحيم جيران الذي لعب دور الموجه في السلوك والمعرفة والبحث، ثم محمد برادة الذي أشرف على كل أبحاثه والذي حول اهتمامه من الشعر إلى الرواية، ثم محمد مفتاح الذي أشرف على أطروحته. كاتب مغربي