تختلف أساليب الاحتلال والحرب الامبريالية من زمن وآخر، أو تتغير مع تطور العلوم والتقنية والاتصالات وغيرها بما يقابلها ويستفيد منها، ولكن مع استمرار تقاليدها وأسسها العدوانية. الأمر الذي يتطلب قراءتها ومتابعة ما يحدث في سياسات العدوان والهيمنة ومحاولات تجديد مخططاتها ومشاريعها. ما عبر عنها بوضوح ما سمته الإدارة الأمريكية انسحاب القوات العسكرية الأمريكية من العراق وانتقالها إلى قواعدها الإستراتيجية الثابتة في دول الخليج والكيان الإسرائيلي، والحديث عن وعود إكمال الانسحاب من أفغانستان. وهذا حسب وجهة نظرها، التي تبعد عنها ظروف وعوامل التسريع والهزيمة، والتي بدونها أساسا لا تضطر أو تنهزم كما حصل في العراق وستتلوه في البلدان الأخرى التي ابتليت بالغزو والحرب. وردا أو استباقا لتوقعات وتغيرات متعددة، لم تترك الإدارة الأمريكية العراق خاليا من تداعيات الانسحاب/ الهزيمة ومن صناعة أزمات لا تتوقف عند حدود التخلص من الاحتلال العسكري المباشر وترسيخ احتلال ناعم بقفازات مدنية ومتفجرات سياسية وأمنية متتالية. هذه الممارسات تعكس تحولات واستمرارا في مشاريع الغزو والعدوان الاستعمارية وبسط النفوذ وتنوع أشكاله، ورد فعل على الهزيمة/الانسحاب العسكري. في الواقع.. ليست العملية بكل جوانبها سهلة أو يسيرة على مجمل مخططات العسكرية الأمريكية في العراق والمنطقة. الهزيمة تدفع الإدارة الأمريكية إلى العمل على تغيير برامجها ومخططاتها وتطويرها وفق التطورات الأمنية والسياسية والعسكرية على مختلف الصعد، ومن أبرزها إعادة الانتشار في المنطقة، والتوزع بين التواجد العسكري الفعلي والقواعد الإستراتيجية والنفوذ السياسي والاقتصادي والهيمنة الامبريالية. وهو ما يحصل ألان. يفصح عن ذلك كله، ما قاله الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما أثناء إعلانه الانسحاب العسكري وفق الاتفاقية المبرمة بين بغداد وواشنطن وتحديد جداول الانسحاب وتواريخها، من انه استفاد من دروس الغزو والاحتلال والحرب، وأكد على تغيير الأساليب وتقدير الأثمان الباهظة فيها، وتجنب تداعياتها في الداخل الأمريكي وعلى الصعد المختلفة، وكذلك رده أو تبرؤه من خطابات عصابات الإدارة التي سبقته، وخططها وذرائعها التي تبيّن خداعها وتضليلها على مختلف المستويات أيضا. ما حصل في العراق اثر الانسحاب العسكري الأمريكي المتفق عليه من تفجيرات ومتفجرات سياسية وأمنية تشرح طبيعة الاحتلال وسياساته الاستباقية وتربط بينها بشكل لا يحتاج إلى دليل أكثر منها هي نفسها. ترسمها صورة الأشلاء العراقية المتناثرة في شوارع المدن العراقية وتصاعد الأرقام في الضحايا والخسائر البشرية والمادية، بدلا من الاحتفال بالجلاء العسكري في حده الأدنى، والعمل على إنهاء كل أشكال الاحتلال الأخرى، وإعادة الأعمار والبناء لعراق حر مستقل ديمقراطي. حيث رسمت المفجرات السياسية وقائع الاحتلال والقائمين بدورهم فيه من شخصيات وأطراف سياسية شاركت في عمليته السياسية وتسابقت في خدمته ورسم ملامحه على الأرض. وهو الدور الذي عرف تاريخيا من تجربة الاستعمار القديم والجديد. لاسيما في البلدان التي ابتلت به وتتعايش فيها مكونات متنوعة تاريخية.. كما فضحت الأحداث حقيقة ادعاءات من شارك في العملية السياسية باسمها أو بتغطيتها بشعارات براقة متوافقة مع سياسات الاحتلال أكثر مما هي تعبير عن منطلقات صادقة ومخلصة. وهو ما تكشفه التصريحات والرسائل المرسلة إلى عنوانها الوحيد عبر وسائل إعلامه، أو في اللجوء إلى السفير الأمريكي في بغداد، والتشكي له، والعودة الصارخة لبدايات الغزو والاحتلال والارتباط بمصالح السياسات الأمريكية في العراق والمنطقة والتسابق بينها حول الولاء والارتهان بتلك السياسات لا بالمصالح الوطنية والقومية والدينية لها في عراق جديد فعلا. والأغرب في الأمر أن كل تلك القوى المشتركة في العملية السياسية تنتقد بعضها بعضا وتسجل ملاحظاتها على الدستور ومواده والانتخابات ونتائجها، وقوائم الفساد والإفساد، وأعمال الإرهاب والقتل والاعتقال، وهي أمور معبرة عن مساحة التغير في العراق، ولكنها تتراجع وتتقهقر حتى هذه الأشكال اللفظية من التعبيرات السياسية بإشارات من السفير الأمريكي في بغداد أو من يخوله بالتصريح بذلك أو توجيه الأوامر فعليا. وهي حالة عراقية، وربما عربية في بعض البلدان، ملفتة للانتباه والدرس والاعتبار منها بعد التحولات والانتفاضات العربية والصراخ العالي رسميا عن الاستقلال والحرية. يعبر عنها ما يجتاح الشارع السياسي العراقي من الإشكاليات العامة التي تتدرج من التهديدات السياسية بتعليق عضوية وتجميد أعمال مؤسسات العملية السياسية، إلى تقسيم البلاد بمطالبة محافظات معينة بالتحول إلى أقاليم مستقلة، الأمر الذي ينطق بتعثر التفاهم وتعمق الانقسامات بين «المسؤولين» العراقيين، والتوجه إلى مرحلة جديدة من الفوضى. يضاف لكل ذلك تصعيد الأزمات إلى صراعات حادة ومدها إلى خارطة مكونات طائفية وقومية واستغلالها، وصولا إلى التهديد أو التحذير أو التخوف من انزلاق البلاد إلى حروب دامية، لفرض شروط ومطالب لا تخدم المصالح الوطنية للعراق الجديد!. أثبتت الوقائع الجارية بان الشعارات التي رفعتها الإدارة الأمريكية بعد فشلها في تصديق ذرائعها في غزو العراق واحتلاله لم تنجح في تطبيقها وتنفيذ ادعاءاتها حولها عمليا وظلت أسماء محرفة عن معانيها. كما هو الحال مع شعار الديمقراطية الذي كرره أوباما أيضا في تأكيده عليه بعد الانسحاب.. ونموذجيته أفصحت بان تأسيسه على أسس خاطئة ومضللة يثمر نتائج خاطئة بديهيا، وهو ما عليه العراق اليوم. فلا شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والاستقلال وغيرها تحققت في العراق إثناء السنوات العجاف من الغزو والاحتلال ولا بعد الانسحاب العسكري وتمديد النفوذ بكل أشكاله عليه. صحيح تم الانسحاب العسكري الأمريكي فعلا ولكن لم ينته الدور الأمريكي ولا النفوذ المتعدد الأشكال، والذي يدخل في إرباك العديد من الذين جاءوا مع الاحتلال أو أسهموا فيه أو تمرنوا على يديه ووظفوا جهودهم في خدمته، سواء برضاهم أو بضرورة الحاجة، كما تعلن ذلك الخطابات الرنانة التي تستعيد الأهداف التي رسمت بجهودهم وما سموه بالعملية السياسية الأمريكية، بإعادتها إلى مربعها الأول، وإثارة فوضى أزمات بعد ما يقارب من تسع سنوات من الاحتلال وجرائمه. وما يعيشه العراق حاليا من متفجرات متتالية على مختلف الصعد يقدم دروسا وعبرا لابد من تفحصها باستمرار والتصدي لمخاطرها الكارثية.