اخترنا أن نتكلم عن المرأة من خلال مفكرَيْن وصل الاختلاف بينهما في رؤيتهما للعالم وللمرأة إلى حد التناقض هما ابن رشد وابن عربي، لا من أجل إذابة الفروق بين العقلانية وما هو فوق طور العقلانية، أو وضع المرأة في برزخ بين قارتَي الفلسفة والعرفان، لأننا نعتقد أن لكل منهما شرابه الخاص الذي لا يريد أن ينقعه بشراب الآخر؟ مقدمة: مِن المرأة يبدأ الوجود وينتهي إليه، فهي حافظة للنسل، ولثقافة الأمة، أي حافظةٌ للوجودَيْن البيولوجي والثقافي، صائنة للحياة بمعناها الطبيعي والروحي؛ والحفظ كأنه خلق. فإن نَظرَتْ الأمة إليها نظرة امتهان واسترقاق، حكمت الأمة على نفسها بالاسترقاق عن طواعية، وإن نظرَت إليها نظرةَ إكبار وتقدير ملؤها المساواة والتكافؤ برهنت على أنها أمة كريمة حرة. أولا – المساواة بين الذكورة والأنوثة في فلسفة الوجود لدى ابن رشد سأبدأ بابن رشد احتراما للترتيب الزمني، لا تفضيلا لمن يقول بالعقل على من يقول بطور فيما بعد العقل حيث يسود الخيال والقلب والكشف والرؤيا، بدل النظر والاستدلال. وبالرغم من أن ابن رشد صاحب عقل واستدلال، فلا بد من الاعتراف منذ البداية بأنه من الصعب استخلاص موقف منسجم واضح له من قضية المرأة لأنه، أولا، لم يكتب في هذا الصدد رسالةً أو مقالةً خاصة، شأنه في ذلك شأن جل الفلاسفة السابقين واللاحقين عليه. وهذا يدل على أن موضوع المرأة، أو الأنوثية، لم يَرْقَ إلى أن يصبح موضوعا فلسفيا بِعُدّته المفهومية والإشكالية. وقد استمر تقليد السكوت عن موضوع المرأة بوصفه موضوعا فلسفيا حتى لدى الفلاسفة المعاصرين بالرغم من الثورات الفكرية والسياسية الجذرية التي بوأت الإنسان مكان الصدارة في الكون، وحررته من كثير من أصفاد الرق والعبودية. وثانيا، لأن ابن رشد، عندما خاض في موضوع المرأة في كتبه المختلفة لم يتطرق إليه بالقصد الأول، وإنما بطريق غير مباشر، أي عرَضا أثناء تناوله لقضايا أربع هي: (1) قضية تعريف الإنسان، التي تنتمي إلى سياق ميتافيزيقي – منطقي (2) وقضية بناء دولة عادلة فاضلة تَحظَى فيها المرأة بأهمية خاصة، وهي قضية تنتمي إلى فلسفة السياسة، (3) ومسألة الإنجاب، وهو سياق بيولوجي واجتماعي، (4) وأخيرا مسألة الحق والحقوق المتصلة بمجالات العقود والرق والتجارة والشهادة والإرث الخ، وهي مسائل تنتمي إلى مجال الفقه. واضح بأن صعوبة استخلاص موقف رشدي واضح ومنسجم من القضية النسوية ترجع إلى أن ابن رشد عالجها عبر أربعة تصورات متقابلة: تصور فلسفي أفلاطوني، تصور فلسفي أرسطي، وتصور علمي – بيولوجي، وتصور ديني – إسلامي. تمخضت هذه التصورات الأربعة عن نزعتين متقابلتين من المرأة: "نزعة مساواتية" ظهرت في أعماله المتصلة بفلسفة الوجود وفلسفة السياسة، أي عندما كان يفحص موضوع الإنسان فحصاً عاماً من الناحية الوجودية أو فحصا خاصا من الناحية السياسية؛ ونزعة لامساواتية إزاء النساء ظهرت في أعماله العلمية – الطبية وعمله الشرعي – الفقهي (بداية المجتهد)، أي عندما كان ينظر إلى علاقة الرجل بالمرأة من زوايا عملية تجريبية، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات. تدفعنا هذه الازدواجية في الموقف الرشدي إزاء المرأة إلى طرح أربعة الأسئلة: أولها، هل كان ابن رشد في كتبه المختلفة (التي تنظر في علوم متباينة) يتكلم عن نفس المرأة أم عن نوعين من المرأة، أقصد المرأة من حيث هي مفهوم فلسفي عام، والمرأة من حيث هي موجود واقعي له حقوقه الاجتماعية – السياسية – الحقوقية الملموسة؟ السؤال الثاني: هل يمكن اعتبار الأفكار التي دافع عنها في كتابه السياسي "جوامع سياسة أفلاطون" بشأن المساواة السياسية والأونطولوجية للمرأة بالرجل خارطة طريق لتحرير المرأة، ومن خلالها تحرير المجتمع والرفع من مستواه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والمعرفي، أم أنها مجرد رؤية حالمة مستحيلة التطبيق، ولو أنها محفِّزة للتفكير في واقع آخر لعلاقة الذكورة بالأنوثة؟ السؤال الثالث: هل فكَّر ابن رشد في أن يطبق المبدأ المشهور الذي أعلنه في كتابه "فصل المقال" "بأن الحق لا يضاد الحق"، على نظرته إلى الحق والحقوق في كتابه الفقهي "بداية المجتهد"، فيكون قد حاول أن يُثبت بأن الحق الإلهي لا يتعارض مع الحق الإنساني، أو أن الحق الشرعي لا يتضاد مع الحق الفلسفي للمرأة؟ أما سؤالنا الرابع والأخير، الذي يختصر الأسئلة السابقة، فهو لماذا لم ينظر ابن رشد إلى "وجود" المرأة على غرار نظرته إلى "ماهيتها": هل لكونه كان يفصل الماهية عن الوجود أم لأنه كان يعطي الأسبقية للوجود على الماهية؟ ليس الغرض من حديثنا هذا أن نستعرض الموقفين المساواتي واللامساواتي بتفصيل، وإنما سأركز على الموقف المساواتي باستعراض الأسس الفلسفية، تمهيدا للإجابة على السؤال المحرج لماذا لم يعمل ابن رشد على إخضاع موقفه العملي (الفقهي والطبي) اللامساواتي لموقفه النظري المساواتي من المرأة؟ سأعرض للموقف المساواتي في لحظتين: (1) اللحظة الأولى سأقدم فيها المبدأ أو المبادئ النظرية التي تقوم عليها أطروحة الوحدة في الطبيعة والنوع بين الرجل والمرأة، وما هي درجة الاختلاف التي تسمح بها هذه الوحدة النوعية بينهما، معتمدا في ذلك على تفسير كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو؛ (2) وفي اللحظة الثانية سأعرض لإمكانية تطبيق مبدأ المساواة بين الذكورة والأنوثة في الميدان السياسي، وسأستند في ذلك على تلخيص كتاب السياسة لأفلاطون. 1) المساواة بين الرجل والمرأة تُعرِّف الرشدية نفسَها على مستوى الوجود والمعرفة والشريعة بأنها فلسفة وحدوية. فبالنسبة إليها، إذا كان الله واحدا، والوجود واحدا، والحق واحدا، والعقل واحدا، فلماذا لا يكون الإنسان واحداً؟ بوسعنا أن نوجز استدلالنا هذا بالقول بأنه لمّا كانت الفلسفة الرشدية تؤمن بوحدة العقل، أي بوحدة الإنسان، فلا مناص لها من القول بالمساواة بين "نوعي" الإنسان: الرجل والمرأة. وهذا ما فعله بالضبط ابن رشد، حيث رفع "الوحدة النوعية" بين الذكر والأنثى إلى مستوى الهوية – أي المطابقة – قائلا: "الذكر والأنثى… هما من نوع واحد هو هو". ويترتب عن هذا، أن إنسانية الإنسان لا تقبل الزيادة والنقصان، ولا تقبل التفاوت والتفاضل »فالصورة الجوهرية [التي هي العقل]، ليس تقبل الأقل والأكثر. فإنه لا يكون إنسانٌ أكثر إنسانية من إنسان«. لذلك، عندما ينظر ابن رشد إلى الإنسان، فهو ينظر إليه بما هو إنسان، لا بما هو رجل أو امرأة. وهذا ما يفسر وضعنا مفهوم "النوعين" بين مزدوجتين، لأن الرجل والمرأة يشكلان نوعا واحدا، لا نوعين. ويمكن تعزيز هذه الوحدة النوعية بين الذكورة والأنوثة، بالوحدة الدلالية عن طريق اسم الإنسان. ذلك أن اللغة العربية تنفرد بكون اسم الإنسان فيها غير مشتق من الرجل كما هو الأمر في اللغات اللاتينية، بل هو اسم "جامد" مستقل وقائم بذاته؛ بل أكثر من ذلك، يمكن اعتبار اسم المرء، وهو اسم مرادف لاسم الإنسان، مشتق من المرأة وليس العكس. من هنا كان اسم الإنسان اسما محايدا إزاء الرجل والمرأة، أي غير منحاز لأي منهما دون الآخر، ومن ثَم فهما ينتسبان إليه على حد سواء. وبناءً على حياد اسم الإنسان، يمكن أن نستنتج بأنه لا ينطوي على صراع بين الرجل والمرأة، ما يعني أن اسم الإنسان اسم سلمي ومسالم. ويبدأ الصراع متى تخلينا عن اسم الإنسان المحايد، واستعملنا اسم الرجل أو المرأة للإشارة إلى إنسان ما، بهذا نكون قد فتحنا الباب أمام الانحياز والصراع. غير أن هذه الوحدة في الحقيقة البشرية لا تستطيع أن تلغِي الاختلاف بين الرجل والمرأة. هنا نتساءل ما هي طبيعة هذا الاختلاف: هل هو اختلاف ذاتي، أم عرضي، أم أنه بالأحرى اختلاف تقابلي ضدي؟ وإذا سلمنا بأن الاختلاف بين الرجل والمرأة يصل فعلاً إلى مرتبة التقابل الضدي، فهل هذا التضاد يخلق "نوعين" متضادين لا يجتمعان، أم إنه تضاد من النوع التكاملي؟ 2) الاختلاف العَرَضِي بين الرجل والمرأة بعد أن تمت البرهنة على المساواة الجوهرية بين الرجل والمرأة، كان عليه أن يواجه واقع الاختلاف بينهما، إذ لم يكن قادرا على إنكاره. لكن كيف يتعايش الاختلاف مع المساواة؟ هنا لم يكن أمامه بُدّ من وصف الاختلاف بأنه اختلاف عرَضي وذاتي في نفس الوقت. ذلك أن انقسام الإنسان إلى رجل وامرأة، وإن كان لا يدخل في تعريف الإنسان، أي في ماهيته، إلا أنه مع ذلك يُحدِث انقساما تقابليا في النوع الإنساني. ومعناه بعبارة منطقية أنه لا بد للإنسان أن يكون إما رجلا أو امرأة، وذلك على غرار العدد الذي لا بد أن يكون إما فردا أو زوجا. ومما يدل على ذاتية العرَض أنه يؤدي ضرورة إلى انقسام دلالي، أي إلى إطلاق اسمين مختلفين على المتقابلين هما الرجل والمرأة، أو الذكر والأنثى، بخلاف العرَض غير الذاتي الذي لا يؤدي إلى انقسام دلالي وبالتالي لا يُفضي إلى انبثاق اسم خاص به. مثلا انقسام الإنسان إلى أبيض أو أسود لا يُنتج انقساما ذاتيا، أي في الماهية، لذلك لا نجد اسما جامداً للرجل الأبيض واسما خاصا بالرجل الأسود، وإنما نجد اسما مشتقا من الصفتين، فنقول زيد أبيضَ أو أسودَ ما دام العرَض غير ذاتي. مع ذلك يتساءل ابن رشد، إذا كان انقسام جنس الإنسان إلى ذكر وأنثى انقساما ذاتيا وضديا، فلماذا لا »يكون الذكر نوعا، والأنثى نوعا آخر؟«، أي »لِمَ لا يكون الذَّكر مخالفا للأنثى بالنوعية، إذ كان الذكر ضد الأنثى، والخلاف بالضدية هو خلاف بالصورة«، أي بالنوع؟ لمواجهة هذا السؤال اقترح ابن رشد مبدأ يقول بأنه »ليس كل ضد يفعل نوعية« للأسباب الأربعة الآتية: أولاً أن الانقسام الذي تحدثه الذكورة والأنوثة في نوع الإنسان لا يكون في جزئه العقلي، أي الماهوي، وإنما في جزئه الجسمي أو الحيواني. بعبارة ابن رشد »ليس توجد غيرية للإنسان من جهة العنصر [أي الجسم]« ، وإنما »الغيرية […] توجد إذا كان تضاد في الصورة [العقل]«. وهذه الغيرية، التي يسميها ابن رشد بالغيرية التامة، هي التي تتباعد فيها الصورتان المتضادتان غاية التباعد في الوجود، والحال أن التضاد بين الرجل والمرأة ليس في "غاية التباعد". الدليل الثاني لامتناع إحداث تضاد الذكورة والأنوثة للغيرية بينهما هي أن التضاد لا يمكن أن يدخل في تعريف ماهية الإنسان، لأن الماهية لا تقبل التضاد، أي أن »السبب في أن الإنسان واحد في صورته، أنه ليس يُؤخَذ في حده فصول متضادة«. الدليل الثالث لامتناع أن تكون ضدية الذكورة للأنوثة محدِثة للغيرية هو أن المنطق يقضي بأن النوع لا يقبل الانقسام إلى أنواع، وإنما إلى أشخاص: »الواحد بالصورة، هو النوع الأخير الذي لا ينقسم إلى نوع آخر، بل إلى الأشخاص«. الحجة الرابعة لوحدة الرجل والمرأة نلتقطها من حقل البيولوجيا، وهي أن وحدة النوع البشري ترجع إلى وحدة المادة التي يتكون منها الذكر والأنثى معا وهي المنيّ؛ أما الاختلاف بينهما فيعود إلى اختلاف في الانفعال إزاء الحرارة والبرودة، فالذكر يكون نتيجة انفعال الحرارة، والأنثى وليدة البرودة: »ولهذه العلة كانت مادة الذكر والأنثى بالجملة واحدة، مثل المنيّ. فإن المنيّ الواحد بعينه إذا انفعل انفعالا ما كان منه ذكر، وإذا انفعل انفعالا مضاداً لذلك كان عنه أنثى… ويحتمل أن يريد بالانفعال ما يعرض له من الحرارة والبرودة«. وبما أن هذين الانفعالين عرضان ذاتيان لا يرقيان إلى مستوى الفصلين الذاتيين، فإنهما لا يُحدثان اختلافا جوهريا، وهذا ما عبّر عنه بقوله: »الذكورية والأنوثية، وإن كانا انفعالين ذاتيين للحيوان وخاصّين به، فليس من نوع الفصول الذاتية الجوهرية، أي ليس هذان الفصلان مما يتجوهر به الحيوان، بل هي أعراض ذاتية لعنصر الحيوان«. إجمالاً، تلتئم هذه الحجج، كل واحدة من جهتها الخاصة، لكي تثبت أن لا فرق نوعيّ بين الرجل والمرأة في الماهية، ومعناه أن لهما نفس العقل، بالرغم من تقابلهما الضدي على مستوى الجسم والاسم. بهذا النحو يكون الاختلاف بين الرجل والمرأة داخل المساواة، داخل الوحدة النوعية، لا خارجها. فهل تسمح هذه المساواة أن تتحمل المرأة المسئوليات السياسية والأمنية في الدولة العادلة؟ هذا ما سنختبره في الخطاب الفلسفي السياسي لأبي الوليد حول المرأة. ثانيا – المساواة بين الرجل والمرأة على مستوى الفلسفة السياسية في كتاب جوامع سياسة أفلاطون نظر ابن رشد إلى المرأة من زاوية الفلسفة السياسية، ما أدى إلى تحويل الوحدة النوعية (الفلسفية) بين الرجل والمرأة إلى وحدة أو مساواة سياسية، فانتقلت هذه المسألة من مجال العقل النظري إلى مجال العقل العملي. معنى ذلك أن نظرة ابن رشد للمرأة في كتاب جوامع السياسة خضعت للشروط الثلاثة لقيام الدولة الفاضلة: الشرط التربوي المتمثل في القيام بثورة في نظام التعليم، والشرط الأخلاقي بربط السياسة بالأخلاق، ثم شرط وحدة الدولة. وقد تجسدت وحدة الدولة فيما يمكن تسميته بالوحدة التناسبية التي تنظم العلاقات بين طبقات الدولة الثلاث (الحكام والجيش والطبقات المنتجة) على أساس الخدمة المتبادلة فيما بينها التي سنبين مبادئها فيما بعد. وهذه الوحدة التي اتخذت طابعا سياسيا، والتي تلعب دوراً محوريا في تحقيق العدالة السياسية، كان أصلها نظريا. وفي ثنايا الوحدة التناسبية تولّدت وحدة أخرى جراء نظرة جديدة إلى تعليم أطفال حماة الدولة هي الوحدة النوعية القائمة على أساس المساواة بين الرجل والمرأة، لكن فقط داخل فئة حُماة المدينة، لا بين كل الفئات. مبدئياً الوحدتان، التناسبية والنوعية، متضادتان، لأن الأولى تقوم على الاختلاف والتفاوت والتبعية بين الطبقات الاجتماعية، بينما تقوم الوحدة الثانية على "مساواة جوهرية" بين الرجل والمرأة لا اختلاف ولا تفاوت بينهما. ولا يمكن بناء مدينة فاضلة على أساس الوحدة النوعية، أي على المساواة المطلقة بين الناس والفئات، إذ لا بد من تفاضل وتفاوت فيما بين الفئات لضمان تكامل وظائف الدولة، إذ التفاضل والخدمة المتبادلة بين الطبقات المختلفة هي التي تضمن عدالة وكمال المدينة الفاضلة. فكيف تم تفعيل هذه المساواة هذه الحيثية؟ تم تفعيل المساواة النوعية بين الرجل والمرأة داخل المساواة النسبية بفضل تصور للتربية ينطلق من الإقرار بالوحدة في الطبيعة والغاية بين الرجل والمرأة. ما يعني أن تربية المرأة ينبغي أن تكون بنفس الروح وبنفس المنهج الذي يُربَّى به الرجل بدون فرق أو تمييز، »لأن الأنثى تفعل هي أيضا نفس ما يفعله الذكر«، كالإقدام والشجاعة والهمة والحميّة والحكمة، ولا تنتظر هذه الاستعدادات سوى تحويلها إلى ملكات وكفاءات عبر التربية والتدريب. مظاهر الوحدة النوعية بين الرجل والمرأة كثيرة، مع ذلك لا يمكن لعاقل أن يُنكر وجود أكثر من تفاوت بينما. فعلى المستوى البيولوجي مثلا، للرجل ثدي كالمرأة، لكنه لا يقوم بنفس الوظائف البيولوجية التي يقوم بها ثدي المرأة. والاختلاف بينهما يتجلى أكثر في العادات، إذ هناك »عادات تليق بالمرأة ليست تليق بالرجل«، فالمرأة أحدق من الرجل في بعض الصناعات، والرجل أكثر كَدّا من المرأة في صناعات أخرى. لكن يبقى هذا التفاوت عرَضيا، بل ويمكن استثماره بتوجيهه نحو الأفضل بما يناسب طاقات وكفاءات كل من الرجل والمرأة. لكن من النتائج المثيرة للاستغراب للتربية العسكرية حرمان المرأة من حقها في امتلاك أسرة خاصة بها، طالما أن هدف هذه التربية هو الاشتراك في النساء والأطفال والثروة. وقد أقر ابن رشد في شرحه لأفلاطون مبدأ "الاشتراك" حتى لا تؤدي "المِلْكية الفردية" للثروة والأسرة إلى تفشي انفعالات الحقد والضغينة والصراع المهددة للالتحام والولاء المطلق للدولة وحدها بين صفوف حماتها. وقد اعتبر ابن رشد الاشتراك في النساء والأطفال والثروة "الخير الأعظم في المدينة" لأنه يخدم وحدة الدولة الذي هو الخير الأفضل، في مقابل التعدد الذي هو الشر الأعظم الذي يصيب الدولة. معنى هذا أن الاشتراك في النساء والأطفال والثروة يحرر حماة الدولة من أي تعلّق آخر غير التعلق بالدولة، فينحصر حبهم في الدولة فقط. الغاية من التربية تأهيل المرأة لتحقيق كمالين: كمال سياسي يمكّنها من أن تصبح حافظة وحامية للدولة، وكمال معرفي وجودي يؤهّلها لأن تكون حاكمة، أي فيلسوفة. بهذا النحو تضمن التربية للمرأة أن تكون حافظة بالمعنيين البيولوجي والسياسي. بالحفظ البيولوجي تحقق المرأة استمرار الحياة والنسل، وبالحفظ السياسي تحفظ المرأة استمرار الدولة العادلة. ولمّا كان الحفظ خلقا جديدا، فإن المرأة بهذا النحو تكون أداة الخلق البيولوجي والسياسي معاً. ولا شك أن أهمية إثبات فكرة كون النساء قادرات على تحمّل مسؤوليات التربية العسكرية والمذهبية لا تعود إلى قابليتها أو عدم قابليتها للتطبيق، وإنما تعود إلى كونها تَدحض جملة من الأحكام المُسبَقة التي تُصوِّر النساء وكأنهن كائنات رِخوة لا يملكن جسداً قويا، ولا نفْسا جسورا، ولا قلْباً ثابتاً، ولا ذكاءً وقّاداً، ولا أخلاقاً عالية، ولا قدرة على الانضباط. إن الغاية من البرنامج التربوي الجديد هو خلق صورة أخرى للمرأة بموجبها تكون ندّا للرجل في كل شيء، وبخاصة في تحمّل المسؤوليات الجليلة. إنه حل رؤيوي حالم قد يكون غير قابل للتطبيق، ولكنه مع ذلك ضروري لتغذية الأمل في تحرير المجتمع لنفسه عن طريق المرأة. هذا عن الكمال السياسي، أما عن الكمال المعرفي المتمثل في الحُكم بالحكمة، والذي لا يقتضي فقط كفاءات نظرية عالية وتفرّغا للعلم وزُهدا في الحياة الاجتماعية، ولكنه يتطلب أيضا ضربا خاصا من البصيرة وبُعد النظر ومنهجاً في التفكير الكلي المطلق، فقد أثبت ابن رشد قدرة المرأة على تحصيله ولو بشيء من التحفظ. هكذا تستطيع التربية أن تؤهّل المرأة لأن تكون حاكمة ومُحبة للحكمة، أي أن تحقق كمالَها الوجودي المتمثل في بلوغ الغاية في العقل والحكمة، وكمالها السياسي الذي هو بلوغ الغاية في العدل والفضيلة. ثالثا – اللامساواة بين الذكورة والأنوثة من منظور الشريعة لكنه في فضائَي البيولوجيا والشريعة نجده يتخلى عن هذا التراث الفلسفي السياسي المساواتي لصالح تراث مضاد ينطلق من رؤية لامساواتية تعتبر المرأة إما أنها نصف الرجل، أو أنها موجودة من أجله، لذلك تم إخضاعها لسلاسل معقدة من الأحكام الشرعية والأحكام المسبقة والأخبار والاجتهادات التي تقيد حريتها إلى درجة جعلت وضعيتها أقرب ما تكون من وضعية الصبيان والعبيد والمعتوهين. نشير إلى أن هذه الفجوة التي تركها لنا ابن رشد بين وضعية المرأة في الفلسفة ووضعيتها في الفقه هي منبه لنا من أجل أن نملأها لا فقط بالبحث الحقوقي والسياسي والفقهي والكلامي والصوفي والفلسفي المعمق، ولكن أيضا بالنضال المدني والحوار الديمقراطي وبثقافة الاعتراف حتى وإن رفَضت المرأة نفسها المساواة بين الذكورة والأنوثة بناء على رؤية غيبية، لا على رؤية حضورية، على رؤية تخييلية لا على رؤية إدراكية. ولا يمكن أن يُكتَب النجاح لهذا الشرط المزدوج لملء الثغرة بين الفلسفي والفقهي، أو بين الوجودي والشرعي، إذا لم تحرِّكه الرغبة المشتركة بين المتحاورين في الوصول إلى حلول وسطى تأخذ بعين الاعتبار كل الحساسيات والظروف، على أن يتفق الجميع على أن المرأة تبقى هي راعية الحياة وضامنة المستقبل وحاضنة للحداثة، وعلى أن تظل الحلول الوسطى قابلة للتحرك نحو حلول تكرس حق المرأة شيئا فشيئاً. إننا لا نخشى أن يتحول إثبات الاختلاف بين الذكورة والأنوثة على المستوى الفلسفي إلى تمييز نوعي بينها، لأن الاختلاف أو التقابل بين الرجل والمرأة هو داخل المساواة في الإنسانية. لكن المشكل يبدأ متى انتقل الاختلاف من المستوى الفلسفي، الذي يتميز بالشمولية والإطلاق، إلى المستوى الثقافي، الذي يرتبط بأوضاع وموازين قوى وصراعات المجتمع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية حول السلطة والنفوذ. عندئذ، يتحول الاختلاف إلى تمييز، فتغدو المرأة أدنى عقلا، وأحطّ أخلاقا، وأبعد عن الاهتمام بشئون السياسة والرئاسة من الرجل. فتكون الثقافة هي الثغرة التي يتسرب منها التميز النوعي لنسف المساواة الأونطولوجية. وقد سقط في فخ هذا التناقض جل المفكرين القدامى والمحدثين. فعلا، كانت الثقافة من القوة إلى حد أنها أقنعت حتى بعض فئات النساء المتنطعات بدونية وضعيتهن البيولوجية والاجتماعية والثقافية والحقوقية إزاء الرجل، حيث تحولن إلى داعية لنشر وتكريس التمييز ضدهن. وهذا معناه أن المرأة نفسها تسهم في نشر جو من العداوة والاحتقار ضدها، والمتمثلة في الثقافة الذكورية التي روجت لدونية المرأة الأخلاقية والاجتماعية والشرعية وحتى العِلمية. ولم تتمكن الإنسانية من تجاوز هذه الوضعية الشاذة إلا بعدما دخلت في زمن الحداثة، هذه الحداثة التي عملت شيئا فشيئا على إعادة الاعتبار للمرأة على المستويين النظري والعملي. إننا نعتقد أن إنصاف المرأة والاعتراف بكرامتها يجب أن يأتي من داخلها، من ذات المرأة، لا من خارجها، أي من القوانين والدساتير والأعراف والتقاليد. فكما أن الصحة، كما يقول ابن رشد، تأتي أولا من الذات لا من الأدوية، فكذلك إنصاف المرأة يأتي من داخلها لا من خارجها. نعم، إنصاف المرأة بحاجة إلى القوانين والدساتير والمساطر التي تتولد عبر حوار ديمقراطي يشترك فيها الجميع ويؤخذ برأي الجميع دون استثناء، لكن إذا لم تكن المرأة مؤمنة بحريتها، وتتوقف عن الإشادة بقيودها، فإنه مهما تضمنت القوانين من مبادئ وقواعد وإجراءات عملية تقرّ بمساواتها مع الرجل وتَضمَن إمكانية إنصافها وتفسح المجال أمام حريتها، فإنها ستبقى حبرا على ورق! يجب أن تكون المرأة حرة في ذاتها، مساوية لذاتها بذاتها، لكي تكون حرة في مجتمعها، ومساوية للرجل، نده وشريكة له في الحياة. منتهى القول، يتطلب إصلاح وضعية المرأة ثورة ثقافية وتربوية جذرية ذات نفَس طويل، لأن الثقافة التقليدية راكمت منذ آلاف السنين أحكاما مسبقة تمييزية لا يمكن محوها بسهولة بين ليلة وضحاها. فهل ستساهم رؤية ابن عربي للمرأة في إنجاز هذه الثورة الثقافية؟ هذا ما سنستعرضه في المقال القادم. – يتبع –