الحلقة 7 يعيش المغاربة، مثلهم في ذلك مثل السواد الأعظم من الشعوب، في ظل العديد من أنساق الاعتقاد: فهناك مجموعة متنافرة من الممارسات الطقوسية السابقة على التوحيد، ودين منزَّل –هو الإسلام هنا- واحترام للعلم الحديث. وإن التنافر البيِّن لهذه المجموعات العرفانية (gnosiques) لا يطرح بالنسبة لكل ملاحظ خارجي، أو بالنسبة لكل أولئك الذين قد ينزوون داخل واحد من هذه الأنساق الجزئية الثلاثة، أية مشاكل على مستعمليه. وقد يندهش المغاربة كثيرا –في معظمهم طبعا - لو سمعوا أن من الممكن أن يوجد تنافر، بل تناقض أو منافاة، بين هذه العوالم المفهومية أو الإيديولوجية المختلفة. وعلى عكس ذلك، فإن باب المعرفة والفعل بالنسبة للأغلبية العظمى من الناس يمكن أن يُرمز إليه بقوس تستند عتبته على العالم المحسوس مباشرة، ويجسد عموده الأيسر مجموع المعارف الاختيارية، والأيمن متن المعارف التجريبية، كما يمثل منحنياه تبحّر الباطن شمالا والظاهر يمينا، ويُتوِّج كل هذا ويلحم بين عناصره مفتاح قبة الإسلام، مبدأ كل «لوغوس» ومنتهاه. لمكن، ما أن ينقص واحد من هذه العناصر حتى يتهاوى الكل أو ما يسمى نتفا وكسورا محطمة لا تملك دلالة عامة، وتغدو، وبالتالي، من غير فعالية. بلد المائة ألف ولي المعتقدات العصرانية: في المغرب، لا يتعارض العلم والدين باعتبارهما سجلَّين جامعيين مانعين للمعرفة. بل إن الدين، وعلى العكس من ذلك، يشجِّع التبحُّر في العلم، وتُستعمل نفس الكلمة (علم) لتسمية العلم الروحي، اللاهوت، وعلم العالَم الملموس. وهي شروط مساعدة على تفاعل إيديولوجي دائم، هو مصدر الإقرار بالشرعية النظرية لكل مجهود علميّ [يتوخّى] المعرفة. إن التبحّر العلمي لا يناهض الدين، وليس مطلوبا منه أن يُراكم الأدلة، ويستقر في السريّة أو يثير الفضائح. مادام لا يمس بالممارسات الاجتماعية وبمجال المدينة. وإن وضعية الأبواب المفتوحة هذه –على الأقل بالنسبة لعلم العالَم المادي- تضع رجل العلم وسط الفقهاء، ضمن مكانة معترف بها مسبقا. وبما أن العلم الحديث، والتقنية –المستوردة بشكل واسع- على وجه الخصوص، لم يكونا مضطرين للنضال من أجل الحصول على المشروعية، فإنهما سرعان ما ظفرا بكل المجال الممكن. فما من نبذٍ أو تشكك يحرِّم على المسلمين استعمال مكتشفات التقنية، وذلك مثلما يمكننا ملاحظة مع الميكروفونات [الموضوعة] في المساجد، ومكبرات الصوت بأعالي المآذن للمناداة على المؤمنين، وتصوير الأماكن المقدسة الخ. الحدود الوحيدة هي تلك التي إذا انتُهكت أمكنها تغيير النظام الاجتماعي، وبصورة أكثر تحديدا، التي قد يُنظر إليها على أنها تملك هذا التأثير أو [ذاك] على المدى القصير. ونفس الشيء بالنسبة للتقويم: فحساب الأيام بالمغرب، بالنسبة للسنّة الإسلامية على الأقل، يتم اعتمادا على مراحل قمرية. ومن المفروغ منه أن المعرفة الفلكية بهذه الأخيرة تمكّن من معرفة لحظة ظهور الهلال في منطقة معينة. لكن التقليد يقول بهذه الأخيرة تمكّن من معرفة لحظة ظهور الهلال في منطقة معينة. لكن التقليد يقول بضرورة ثبوت رؤية الهلال من طرف اثني عشر شاهدا لكي يتم الإعلان عن بداية الشهر. ينجم عن ذلك أننا لا نعرف، وإن قبيل ذلك ببضع ساعات، في أي وقت من الزمن الكوني سيأتي هذا اليوم [أو ذاك] من الشهر الإسلامي، أو هذا العيد.... وذلك لأن النظام الاجتماعي متشدِّد في تمسكه بالإعلان عما يملك كل هذه الأهمية بالنسبة للمجتمع: أي تدبير الزمن. ويمكن للتقنية أن تقوم بكل شيء، وينظر إليها أحيانا على أنها قادرة على كل شيء قدرة لا حدَّ لها، ما عدا إذا أرادت ممارسة فعلها على المجتمع. وهي قضية أكثر من متناقضة، لا معقولة حتى وإن جرى التعبير عنها على هذا النحو، إلا أنها تأتي بقطيعة أساسية بين ما هو ممكن وما هو مقبول. لقد أحيل العلم إلى صنم، بمعنى أنه لا مجال لمعرفة حدوده، وهو لا يملك حدودا، بالضبط لأن احترام الحدود متوقَّع في تطبيقها على الاجتماعي. ومهما دفع العلم بأفق معارفه بعيدا فإنه لا يقوم بغير تجلية وتأويل وتفسير ما هو مكتوب في القرآن أصلا. كل العلم منصوص عليه في القرآن وقد كان لنا أن نرى ذلك حين أدت تجارب الملاحة الفضائية إلى اكتشاف أن تأويلا للنص المقدّس كان يحتمل إبراز أن «بإمكان السماوات أن تكون مفتوحة» وأن الإنسان بإمكانه أن يصل إلى الرابعة [منها]، التي يرصعها القمر. ذلك أنه إذا كان المجهود الدائم واللامحدود الذي يبذله الإنسان من أجل فهم كلمة الله هو بالضبط أكثر الأمور مشروعة ضمن ما ينبغي القيام به على هذه الأرض، فشتان ما بين الفهم والفعل. إن المستقبل أبعد من أن يكون مشعا. وهو ليس انحطاطا مطَّردا، ولا فتحا دائما. ولا تعاقب لغير الوقائع والمواقف التي لا رأس لها ولا عقب، والتي تبلو الإنسان ومجتمعه. رؤية دائرية على نحو واسع، واتفاقية، تتخللها تقدمّات وأزمات وكوارث ونجاحات، لا يحصَّل عليها بشكل نهائي، ولا تُفقد كلية، وإذا كان ثمة من عصر ذهبي، فلعله، وعند الاقتضاء، هو زمن الإسلام الأول. وإن فتوحات العلم والتقنية لمناسبة موافقة ينبغي الاستفادة منها طالما هي موجودة. فلا شيء مكتوب في السماء يضمن دوامها. عن «المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع نقل النص عن الفرنسية: مصطفى المسناوي