الحلقة 3 يعيش المغاربة، مثلهم في ذلك مثل السواد الأعظم من الشعوب، في ظل العديد من أنساق الاعتقاد: فهناك مجموعة متنافرة من الممارسات الطقوسية السابقة على التوحيد، ودين منزَّل –هو الإسلام هنا- واحترام للعلم الحديث. وإن التنافر البيِّن لهذه المجموعات العرفانية (gnosiques) لا يطرح بالنسبة لكل ملاحظ خارجي، أو بالنسبة لكل أولئك الذين قد ينزوون داخل واحد من هذه الأنساق الجزئية الثلاثة، أية مشاكل على مستعمليه. وقد يندهش المغاربة كثيرا –في معظمهم طبعا - لو سمعوا أن من الممكن أن يوجد تنافر، بل تناقض أو منافاة، بين هذه العوالم المفهومية أو الإيديولوجية المختلفة. وعلى عكس ذلك، فإن باب المعرفة والفعل بالنسبة للأغلبية العظمى من الناس يمكن أن يُرمز إليه بقوس تستند عتبته على العالم المحسوس مباشرة، ويجسد عموده الأيسر مجموع المعارف الاختيارية، والأيمن متن المعارف التجريبية، كما يمثل منحنياه تبحّر الباطن شمالا والظاهر يمينا، ويُتوِّج كل هذا ويلحم بين عناصره مفتاح قبة الإسلام، مبدأ كل «لوغوس» ومنتهاه. لمكن، ما أن ينقص واحد من هذه العناصر حتى يتهاوى الكل أو ما يسمى نتفا وكسورا محطمة لا تملك دلالة عامة، وتغدو، وبالتالي، من غير فعالية. بلد المائة ألف ولي إن «الطُلبة» أو «الفقهاء»، بصفة عامة، هم الذين يحرِّرون التمائم أو يرسمونها بالأحرى. وصفة العارف هذه، للّغة وللدين، تضعهم مباشرة في مأمن من كل شبهة وثنية. ورغم أن علماء السلام والمؤمنين الصادقين يرفضون هذه الممارسات المنحرفة التي يقوم بها كاتبو التمائم ويعتبرونها هرطقة، فإن الطبقة الدنيا [من المجتمع]، وهي التي تمثل الأغلبية العظمى من زبناء هؤلاء النُسّاخ، لا تلتقي بالاً لهذه الأفكار الدقيقة. فبمجرَّد ما تغطي الصيغ الطقوسية للجهر بالعقيدة الدينية أو بالفاتحة، كتبَ الطلاسم، لا يستطيع الناس ضعيفو التعليم أن يعتقدوا بأن الأحرف العربية وكتابة القرآن الكريم يمكنها أن تكون كافرة. وتلعب هيئة رجال الدين الغامضين هؤلاء، المبعثرين في البوادي، دورا أساسيا في الحفاظ على المعتقدات بالحسر في إدامة التصوف الشعبي. إن المفروض في «طُلبة» البادية أو صغار «فقهائها» -وهم في غالب الأحيان أبناء عائلة جرِّدوا من حقوقهم أو كانوا صغار إخوتهم في عائلات قوية فأبعدوا عن السلطة أو عن الإرث عمليا من طرف إخوة أمهر منهم- هو أنهم كانوا محرومين نزعت منهم ملكيتهم، فحوّلوا رغباتهم في الهيمنة باتجاه طرقٍ أكثر خفاءً. وإذا كان المغاربة، مثلهم مثل جميع الناس، لا يرضون بالضيم، فإن لديهم، أكثر من شعوب أخرى، الإحساس بأن ضحية وضعية ظاهرية سيسلك أكثر السبل لكي ينتقم، أو لكي يحصل على قوة سحرية فحسب. من هنا مصدر الخشية من الحسد والحاسد. فباستثناء العلاقة التجارية، إذا كانت لديك رغبة مفرطة في شيء ما إلى حد أنك أنعمت فيه النظر أو قلت عنه إنه جميل أو يُحسد عليه، أسرع مالكه بإهدائه إليك، مفضِّلا ذلك على المعاناة من الممارسات التي ستسلكها ضده، رغما عنك، قصد الحصول على ذلك الشيء. وإجمالا فإن «العين السيئة» حقا هي عين الحسود. وإذا زرت عائلة مغربية ورأيت طفلا جميلا فإن عليك أن تقول توّاً: «تبارك الله عليه!»، وذلك لكي تثبت أن مديحك أو ثناءك خالِ من كل حسد. لهذا فإن كل شيء مرغوب فيه أو معروض [للأعين] يحمل [رسم] يد، أقدر عضو على الحماية من العين. إن راحة اليد المفتوحة بأصابعها المنتصبة هي أضمن ملاذ سحري: «خمسة في عينيك». اللعنة والبركة: يظن عدد كبير من المغاربة أنه يوجد في كل تجمع، وضمن كل مجموعة عريضة من الناس، أشخاص بإمكانهم التحّرر من الضغوط المادية التي تثقل كاهل شروط عيش باقي الناس. وإذا كانت كلية الحضور والاختفائية فضيلتين يبدو أنهما اختفتا اليوم –حيث لم نعد نجدها في غير حكايات الماضي- فإن نقل الأفكار وقراءتها قراءة مباشرة، والتنويم المغناطيسي، والتحكم في اللعنة والرضى، أي التواصل المباشر الذي تباركه القوى السماوية، ويباركه الله على الخصوص، يجري النظر إليها، بالمقابل، باعتبارها ممارسات شائعة يتحكم فيها أشخاص نادرون. هذه القوى الخفية، وهذه المزايا السحرية، هي لمصلحة –أو شقاء- بعض الأفراد رغما عنهم ودون علم منهم في الغالب. وأحيانا يكتشف المرء نفسه، هو بالذات، مالكا لسحر ما بعد سلسلة من الصدف المفاجئة، أو بعد مجموعة من الأقوال، أو الأحلام... كما أن آخرين يعروهم اليأس لكون القدر وسمهم على هذه الشاكلة. وفي إحدى العائلات المغربية الكبرى، يحمل نسب جزئي، مُبعد عن الإرث السياسي، القدرة على معالجة بعض الأمراض القاتلة بواسطة التمائم، لكن عندما تمارس هذه العلاجات على أحد الأقارب المقربين فإن القائم بها يلقي حتفه [فيها]، ومع ذلك لا يستطيع الامتناع عن العلاج. وفي معظم الأحيان فإن رجال البركة أولئك، الذين يستطيعون جلب السعادة أو الشقاء إلى ذوي قرباهم، يُنظر إليهم باعتبارهم هامشيي: فقراء متواضعون، وحتى شحاذون أحيانا، تحط من شانهم تشوّهات أو معوِّقات جسمية، وإما أنهم بائسون، متواضعون إلى الحدّ الأقصى، صموتون، تستغرقهم حياة باطنية تماما. وإذا لم نكن، فقط، متأكدين من أن شخصا معينا يحمل سحرا فإننا نشك دائما في الشخص الخارق بأنه مسكون بقوى خفية وهائجة و[ذاك] حذر مجتمع يرتاب من الحسّاد. والمحرومين ومن كل أولئك الذين يمكنهم الانتقام من امحائهم من العالم المرئي عن طريق مالهم من سلطات على القوى الخفية. كما أنه حكمة تسعى إلى تعويض الظلم الاجتماعي، وسيلتها في ذلك إنشاء حقل من اللايقين: فالاعتقاد بالسلطة السحرية التي يملكها الفقراء والمحرومون يتغذى من وساوس السائدين. إن المرء لا يعتقد بالصراع الاجتماعي، قوة المنبوذين المتحالفة، بل بلعنة هؤلاء وتدفق المصائب التي يمكنهم أن يدعو بها على المترفين. وإن «السَخْط» و«العار»، [يشكلان] طريقة أخرى لإعادة توزيع المصيبة. أن أرمي «العار» معناه أنني أجعل من الآخر، ضحية لما أنا ضحية له أو لما سأكون ضحية له فيما بعد «Vos in mea injuria despecti estis»، (مهانون أنتم، في إهانتي) (سالوست Salluste، «حرب يوغرطة»). احتياطات مؤقتة: ليس العالم مجرد بنية مادية مرئية مكونة من الضغوط والإمكانيات، بل هو كذلك بنية لا مادية مكوّنة من الزمن، ومن الإيقاعات والعلامات المخبوءة. وتقوم المجتمعات المادية بإضفاء الطابع الاصطناعي على وسطها كما تحاول إزالة كل الضغوط، كي تبني فضاءات ثابتة، متوقعة وقابلة للسيطرة إلى ما لا نهاية له. [أما] المجتمعات التي ما زالت في بداية [الطريق] التي مرت بها المجتمعات السابقة، فإنها تعطي قدرا أكبر من الأهمية لتدبير الزمان أو لإرادة الفاعلين الداخلية. ويعيش القرويون بالمغرب رفقة أربعة تقاويم في نفس الوقت،هي: تقويم الأبراج، والتقويم الجولياني، التقويم الإسلامي والتقويم الغريغوري. ويجب على المرء أن يتساءل حول [سبب] الحفاظ على هذه الغزارة في الإحالة إلى الزمن. وبينما يعود التقويم النجمي، في أوربا، إلى المعتقدات السحرية وحدها، نجده، في المغرب، يجزِّئ تقويم الممارسات الفلاحية إلى عُشاريات مضبوطة. ولا ينجم عن ذلك سوى أن دوران النجوم يضبط إيقاع الحياة المادية والحياة الروحية في نفس الوقت، وذلك بفضل تقويم ابن البناء المنتشر في كل البوادي [المغربية] والذي يعرف فقيه كل قرية بضعة نتف منه. لكن عمل الفقهاء لا يقتصر على نشر وإدامة حساب الأعداد القائم على النجوم، [بل] إنهم يضبطون الإيقاع الأسبوعي لكل زبنائهم. وتملك الأيام، التي تقسمها الصلوات الخمس إلى خمس فترات، قيمة سحرية، خيِّرة أو شريرة، مثلها في ذلك مثل فترات كل يوم. إلا أن هذا لا يصدق بشكل متساوٍ على الجميع. فحسب بعض الشروط المضبوطة، التي أنشئت، على نحو غامض، ينبغي لكل واحد منا، تجنب القيام بسفر صباح يوم الاثنين، ورفض معالجة قضية مهمة ما عصر يوم الثلاثاء، كما أن شروع المرء [في شيء ما] يوم الأربعاء هو من قبيل المخاطرة، الخ. هذا التقويم السري لكل فرد يُخضع الحياة الشخصية لإيقاع [معين] ويفسر بعض التأخرات، وبعض [أنواع] الرفض، وبعض التهّيجات. ولا شك أن الحياة العصرية تمحو شيئا فشيئا احتياطات التقويم هذه، إلا أن من الممكن أن نكتشف فجأة، في خبايا مُسارّة [ما]، أن هذه الطلاقة أو أن هذا الرفض [المعين] لملاقاة [الناس] لا يعودان إلى الكسل أو إلى اللامبالاة بل إلى مراعاة لإيقاع داخلي. وفضلا عن ذلك فإن تذييت الزمن يمكّن في ظروف معينة، من التصنّع أو من تجنب عمل مرهق، مثله في ذلك مثل صداع الرأس أو المرض الدبلوماسي في المجتمعات الأوروبية. لكن، مثلما أن المرض الموضوعي يمثل، في أغلب الأحيان، جوابا ماكرا على المضايقة، فإن السلوكات غير الملائمة، والحركات الخائبة غالبا ما ينظر إليها في المغرب باعتبارها ناجمة عن عدم احترام للتوقيت الداخلي الشخصي الذي يفتح الباب للشيطان. وعلى خلاف المسيحي المتعوّد على الإقرار بذنبه فإن المغربي، بصفة عامة، لا يعتبر نفسه مسؤولاً عن تصرّف معيب [قام به]، حتى وإن كان كذبة، [فالمغربي] الذي يُفترض فيه الخلو من المقاصد الشريرة أو السلوكات الخرقاء، لا يمكن مؤاخذته إلا بسبب الآخر أو بسبب أن الشيطان أربكه. وإذا كذب شخص قيل له: «الله يلعن الشيطان!» وذلك لأن هذا الأخير هو الذي تدخّل في ساعة نحس وتكلَّم محله. عن «المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع نقل النص عن الفرنسية: مصطفى المسناوي