إذا قيست درجة قراءة الصحف بمدينة قلعة السراغنة، حاضرة الإقليم، بميزان أحوال الطقس، فإننا نجد أنها لا تراوح عتبة «جريدة واحدة تحت الصفر لكل قارئ»، مما يضع كل مهتم أمام مفارقة تستعصي على الفهم، خاصة وأن الأمر يتعلق برقعة جغرافية، غير معقدة التضاريس وتتكون من سهول خصبة معتدلة المناخ ومفتوحة المنافذ بطبيعتها، على العالم من كل الجهات.. فالمدينة تتوفرعلى كل مقومات التعلم والتمدرس، وارتقت من ناحية ادارتها الترابية إلى مستوى حاضرة إقليم، أحدث منذ سنة 1973، ويغطي أزيد من عشرة آلاف كيلومتر مربع، بتعداد سكاني، حسب إحصاء سنة 2004، يزيد عن 68 ألف و253 نسمة، وإنتاج فلاحي يمثل قرابة ربع الإنتاج الوطني في مجال الزيتون والحليب ونوعية الماشية من الأغنام، لكن في مقابل هذه المؤهلات، تبقى حصتها من الصحف والمنشورات دون الألف نسخة في اليوم ولا تشمل كل العناوين. ومع كل ذلك، يبدو مؤكدا أن متحصل القراءة الصحفية لدى السرغيني، منعدم تماما ى أي أنه دون المعدل بصفر عن اليمين وآخر عن الشمال، إذ لا يتجاوز 01ر0 جريدة لكل قارئ، بما يفيد غياب التوزيع المنتظم وافتقار المدينة إلى نقط ثابتة لبيع الصحف، قبل الحديث عن مسببات العزوف عن القراءة. وقلعة السراغنة لا تتوفر، حتى اليوم، على أكشاك ولا على مكتبات أو خزانات، بالمواصفات المتعارف عليها في مثيلاتها من الحواضر المتوسطة والمجاورة مثل ابن جرير، تساعد على اقتناء الجديد في عالم الإصدارات والمنشورات، مع أنها تقع في مفترق الطرق بين الدارالبيضاء وفاس ومراكش، وعلى بعد 50 كلم من أقرب محطة قطار عبر مدينة ابن جرير، وقرابة 85 كيلومتر عن المدينة الحمراء.. ولإقتناء القارئ لجريدته الصباحية، عليه إذا كان من أهل المدينة، التوجه إلى «بائع مجوهرات» في مركب تجاري بمدينة قلعة السراغنة، أما إذا كان من غير أهلها، فسيخطئ العنوان. ذلك أن بائع الذهب هو نفسه بائع الصحف الوحيد المتواجد اليوم بحاضرة الإقليم.. ورب سائل يتساءل، ما سر علاقة الذهب بالصحافة - والواقع أنه ليس في ذلك ما يدعو للاستغراب عند الوهلة الأولى، بحيث كان لأهل هذه القلعة الإسماعيلية الحصينة، في سالف الزمان، شغف كبير بالتحصيل وولع شديد بحفظ المتون حتى تقاطر على زواياها ومناراتها العلمية العتيقة، أفواج وأفواج من الطلاب والأقطاب من كل حدب وصوب، بفعل ما اشتهر به رجالاتها من إعلاء لشأن العلم والاجتهاد في سبر أغواره، مما أدى بهم إلى السمو ب»القراءة» إلى مقام الذهب والإبريز.. لكن المفارقة تظل غريبة فعلا، وتفترض أحد احتمالين، إما أن الجريدة تعتبر عملة صعبة بقيمة الذهب، وإما أن الذهب بات سلعة كاسدة أمام الطلب المتزايد على الجريدة-. وبما أن الذهب سلعة لا تبور مهما طال عليها الزمن، فإن الاحتمال الأخير، مستبعد من أساسه، مما قد يرجح كفة الإحتمال الأول ويبقيه قائما، أو يبدو كذلك على الأقل. ومهما يكن، فإن القراءة بصفة عامة، وقراءة الصحف بوجه خاص، إذا شكلت - عند الباحثين السوسيولوجيين ` أحد مظاهر التمدن والنماء العاكسة لملامح المجتمع المنفتح على العالم بكل ما تختزله كلمة الانفتاح من تراكمات معرفية وأبعاد ثقافية واجتماعية، فهي تعني في حالة شاذة كهذه، أنه وضع غير طبيعي ويدعو إلى البحث والتساؤل عن أسبابه ومصوغاته.. قد يكون في آفة الأمية ما يبرر هذا الوضع، من منطلق أن معدل تفشيها بالإقليم يصل إلى أزيد من 56 بالمائة (أزيد من 44 بالمائة بين الذكور و68 بالمائة بين الإناث)، مع العلم أن 5ر56 بالمائة من مجموع سكان الإقليم (السراغنة + الرحامنة) البالغ عددهم 749 ألف و632 نسمة، من فئة عمرية ما بين 25 و34 سنة، يعانون من هذه الآفة الاجتماعية. وعندما يجري الحديث في هذا المقام، عن قراءة الصحف، فإن المقصود بالتحديد، النسبة المتبقية من المتعلمين استبعادا لكل من يدخلون تحت طائلة الأمية. وهو ما يجرنا إلى صياغة جملة من الأسئلة الموضوعية التي لا تتوخى أجوبة، بقدر ما تروم طرح الموضوع للنقاش على نطاق واسع، قد يفضي، إذا ما كتب له أن يستأثر باهتمام ذوي الإختصاص، إلى ملامسة بعض جوانب الإحاطة بهذه الإشكالية في إطارها العام.. فهل من دور تضطلع به السلطات المحلية والهيئات السياسية وفعاليات المجتمع المدني في هذا المجال. وما موقع القراءة التثقيفية والصحفية في عملية التنمية. ومتى يمكن اعتبار القراءة آلية من آليات التربية على المواطنة. وعلى صعيد آخر أهم، قد يحيل على كيفية استقطاب أجيال جديدة من القراء، لامناص من طرح السؤال حول مدى تعاطي المناهج والمقررات التعليمية الوطنية مع قراءة الصحف - إنه سؤال جوهري يستهدف قراء المستقبل، باعتبار القراءة الصحفية، تربية وثقافة تبدأ عملية غرسها في عقول الناشئة في المراحل التعليمية الأولى. فهل تتوفر منظومتنا التربوية على درس في الإستئناس بمادة الإعلام ووسائط الإتصال على شاكلة منظومات البلدان المتقدمة-.. هذه الأسئلة تصب كلها في سؤال محوري عريض: على من تقع مسؤولية فعل القراءة عند من لا يقرؤون من غير الأميين، علما بأن سؤال محو الأمية، والحق في التعلم سيظل قائما وعموما، فإن قلعة السراغنة - برأي عدد من مثقفيها - عرفت في الآونة الأخير توسعا عمرانيا قياسيا، إلا أنها لازالت تفتقر الى بعض الملامح والمقومات التي تنتقل بها من الطابع البدوي المهيمن على عادات ساكنتها، وهم في نظر هؤلاء لا يشكلون استثناءا عربيا في مجال القراءة لأنهم نادرا ما يقرؤون، ذلك أن بعض الدراسات الحديثة تشير إلى أن أمريكي واحد يقرأ ما يقرأه 220 عربيا، وبريطاني واحد يقرأ ما يقرأه 140 عربيا بينما لا يقرأ الطفل العربي سوى ست دقائق خارج المقرر الدراسي. والملاحظ أن العديد من المصالح الخارجية والمرافق العمومية بالإقليم تقتني حصتها اليومية من الجرائد والمجلات من مدينة مراكش، وهو ما يعني أن التفكير في إشكالية توزيع الصحف بانتظام بالمدينة سيظل مؤجلا، مالم يتم التفكير بجدية في خلق أكشاك عبر أطراف المدينة والأحياء السكنية الجديدة والتي ربما ساعد خلقها أو تشجيعها على امتصاص، ولو بقدر قليل، جزء من بطالة الشباب من حاملي الشهادات.. وقراءة الصحف، خلافا للقراءة بمفهومها الثقافي والمعرفي الشامل، هي من بين العادات التي ينبغي العمل على ترسيخها في بنية المجتمع كواحدة من آليات التنمية البشرية بمفهومها الواسع الذي يشمل التوعية والتثقيف، وما يمكن إجماله، باختصار، في الاستجابة لمتطلبات التنمية الإقتصادية والاجتماعية، لكونها، علاوة على دورها في التثقيف والتعبئة وبث روح المواطنة، تساهم إلى حد كبير في تشكيل رأي عام محلي، لن يتأتى تشكيله إلا عبر وسائل الإعلام ومواكبة ما يجري على الصعيدين المحلي والوطني.