المهرجانات، كالأفلام الصادقة، تضطلع بدور مهم، حين تضع مرآة أمام وجوهنا، فيرى المهنيّون والمراقبون والجمهور، كلّ من زاويته، حقيقة سينما بلده. الدورة ال17 (30 سبتمبر 5 أكتوبر 2019) ل”المهرجان الدولي للفيلم القصير المتوسّطي بطنجة” أسقطت ورقة التوت عن واقع الفيلم القصير المغربيّ، حين وضعته إلى جانب أقرانه من ضفّتي البحر الأبيض المتوسّط. ذلك أنّ التفاوت كبير بين الأفلام المغربية الخمسة، المُشاركة في المسابقة الرسمية، والأفلام الأخرى المنافِسَة لها، المختارة من إيطاليا واليونان وتركيا والجزائر وفرنسا، التي تقاسمت، بجدارة، جوائز لجنة التحكيم، برئاسة المخرجة المغربية ليلى كيلاني، رغم تميّز نسبي لفيلمين مغربيين، هما “نشيد البجعة” لليزيد القادري و”أبناء الرّمال” للغالي اغريميش، ظهرت فيهما بوادر رؤية واعدة. لكنّ بعض خيارات مخرجيهما، وقصور ما يقول طرحيهما، حالا دون صنع عمل متكامل ومقنع. كثيرون وجّهوا اللّوم إلى الانتقاء، الذي “غيّب” أفلاماً تستحق مكانة في المسابقة، أبرزها “مرشّحون للانتحار” لحمزة عاطفي و”حمائم” لمعدان الغزواني و”الأرجوحة” لطارق رسمي. يصعب إصدار حكم قاطع ونهائي في هذا الأمر، نظراً إلى أنّ عمليّة الانتقاء تكتنفها معطيات وإكراهات كثيرة، تغيب عن المهتمّين: من قدّم في الآجال المحدّدة، ومن قدّم خارج تلك الآجال؟ من لم يقدّم فيلمه للانتقاء أصلاً؟ من بعث فيلمه بجودة غير مناسبة؟ وغيرها من الاعتبارات التقنية التي يواجهها المنظّمون. ما عُرض لا يترجم حتماً أفضل ما أنتج، ولا يمنع رؤية أزمة يتخبّط فيها الفيلم القصير المغربي، بدأت تظهر منذ أعوام عديدة، بات نادراً أن تجد خلالها فيلماً مغربياً يتسابق في مهرجانات دولية ذات الصنف الأوّل، متخصّصة بالفيلم القصير (“كليرمون فيران” و”بالم سبرين”، مثلاً)، أو في فئات تخصّصها له مهرجانات مهمّة (“كانّ” وفينيسيا وبرلين وإدنبرة، وغيرها)، كما كان حال مخرجين مغاربة، أبرزهم فوزي بن السعيدي، الذي حلّ ضيفاً على فقرة “ماستر كلاس” في الدورة المذكورة، الذي ختم كلامه، المحفوف بروح الشغف وحرقة التقاسم، بجملة ينبغي أن تُخطّ بحروف من ذهب، وتُعلّق في ممرّات مدارس السينما في المغرب: “الدافع وراء إنجاز فيلم ينبغي أن يكون إنجاز الفيلم بحدّ ذاته، وليس أيّ شيءٍ آخر”. قد تبدو هذه الجملة بديهية للبعض، غير أن المطّلعين على الممارسة السينمائية في المغرب يُقرّون بأن مخرج فيلم قصير أوّل، متفرّد بصدقه، كما هو “الحافة” الأكثر تتويجاً في الفيلموغرافيا المغربية، بحصوله على 23 جائزة دولية وضع يده على جرح نازف أمامنا، يوماً بعد يومٍ. أفلام باهتة ومتصنّعة، لا يُشتمّ فيها رائحة أي رهان فنّي، أو مخاطرة لخلخلة الكائن والتمرّد عليه، يأتي بها كثيرون للحصول فقط على بطاقة موسومة بصُورهم، وتحتها صفة “مخرج”. المسألة معقّدة بالتأكيد، تتضافر فيها اعتبارات تتعلّق بفلسفة التكوين الذي يتلقّاه طلّاب معاهد السينما في المغرب، منذ معايير انتقاء الطلبة الجدد إلى مقاربات تأطير مشاريع تَخرّجهم، مروراً بمناهج التدريس وخلفية بعض المؤطّرين. فالتكوين حالياً لا يكفل تخريج طاقات ذات قدرة على تحقيق أفلام متفرّدة ومتجذّرة في تربة السينما. أسباب أخرى تتعلّق بالقوانين والنظم الإدارية، المتحكِّمة بمنح رخص التصوير وتأشيرات العرض والانتقاء للتسابق في المهرجان الوطني، وتمثيل المغرب في المهرجانات الدولية. إذْ يلاحظ أن معايير لا علاقة لها بالسينما الحقّة تؤخَذ بالاعتبار، للمفاضلة بين الأفلام، من قبيل جودة الصورة وجمالها (بالمعنى البلاستيكي)، وتوافر الفيلم على شركة إنتاج “مُعترف بها” من عدمه، ونوعية الممثلين المشاركين في الفيلم، ووزنهم على الساحة (يُفضَّل المحترفون على الهواة، والمعروفون على المغمورين). للتدليل على مدى أهمية تغيير القوانين الإدارية، لخلخلة الكائن ونفخ روح جديدة في الحقل السينمائي، يُذكر أنّ السّماح للمغاربة المقيمين في المهجر بالمشاركة بأفلامهم القصيرة، في دورة مشهودة من “المهرجان الوطني للفيلم بطنجة” عام 1995، كان وراء فتح الباب أمام مخرجين شباب، أصبحوا اليوم مخرجين مهمّين، أمثال نبيل عيوش وإسماعيل فرّوخي ونور الدين لخماري. قناعتي أنْ لا قيامة فعلية لسينمانا ما لم يَعد الاعتبار الأول والأهمّ، المحتَكَم إليه للمفاضلة بين فيلم وآخر ومخرج وآخر، وهو اعتبار السينما، أي ذاك الذي سيبقى في النهاية على مستطيل شاشة العرض، ولا شيء غيره.