في حفل تسليم جائزة القصيدة العربية بفاس، التي فاز بها الشاعر والناقد عبد اللطيف الوراري، كان لقائي به بعد أن عرفته عن بعد، كان شاعرا في كل شيء، قبل أن يكون شاعرا في القصيدة عملا بوصاية فرناندوا بيسوا، وبعد ذلك توطدت علاقتي به قراءة وتذوقا. عبد اللطيف الوراري يُحَاوِرُ كثيرا ولا يُحَاوَرُ إلا قليلا، باحث متمكن، غواص في بحر التراث، وسباح ماهر في بحور الحداثة، «يقرأ أكثر مما يكتب»، يكتب نقدا وينزف شعرا، هذا القادم من مدينة الجديدة مولع بالتجديد، ولا يقطع صلته مع القديم، ويواصل بحثه الأكاديمي من مدينة أكادير بتفانٍ وإخلاص، لا يعرف المهادنة. صدر له ست مجاميع شعرية، وأربع دراسات نقدية ضمن اهتمامه بقضايا الشعر والشعرية العربية، عدا إسهاماته في السيرة الحوارية والذاتية: «علي جعفر العلاق: حياة في القصيدة» و»عبد الكريم الطبال ناسك الجبل» و»ضوء ودخان: شذرات من سيرة ذاتية». في هذا الحوار نلامس معه أهم القضايا التي تشغله راهنًا، ونتسلل إلى مخدعه الشخصي. لماذا “أشهدْتَ عليكَ وعد السحاب”؟ تعرف أنّ ديوان “لماذا أشهدت علي وعد السحاب؟” كان أول خروج رسمي لي إلى مجال تداول الشعر بعد عقد ونصف من الابتلاء به ومعاناته بصمت. وقد حاولت أن أُكنّي عن رغبتي في الإقامة الشعرية على أرض الشعر عليها بالسحاب الذي قد يأتي أو لا يأتي. بعد سنوات تاريخ الخروج، فإنّ الذي يبقى هو ذلك الوعد الذي يستأنف الشعر باستمرار؛ لأنه ليس المهمّ الطريق التي نشقُّها، بل الأثر. مع بداية الألفية الجديدة حيث برزت أغلب أعمالك المتقاربة زمنيا، وهو ما يعني أنك كنت تكتب دائما، كيف توافق بين مطالب الكتابة ومطالب الحياة؟ أوّلًا، كان لي اهتمام شخصي منذ أواخر الثمانينات بالشعر، وكانت تجارب الآخرين تنادي عليّ من أمكنة قريبة وبعيدة. وقد أذيعت لي قصائد كثيرة في برنامج (مع ناشئة الأدب) الذي كانت تذيعه الإذاعة الوطنية بين عامي 1990 و1991، ثم سرعان ما توطدت علاقتي بالشعرية العربية من خلال دراستي الجامعية بين أعوام 1992 و1997. عملت هذه السنوات السبع على تمكيني الشعر من نفسي وملازمته كالظلّ. غير أن انتقالي إلى منطقة نائية للعمل في التدريس، وانقطاعي عن فضاءاتي الحميمة التي كبرت معي وكنت أتردد عليها أحايين كثيرة، أرجأ أي سانحة لنشر النتاج ورقيًّا، فكنت أكتب لنفسي وأقرأ عليها، وبعد ذلك ألقي بالمكتوب في أدراج أرشيفي المعتمة. ولذلك، فإن ما ظهر لي شعرًا ونقدًا في فترة زمنية متقاربة ليس وليد عشية وضحاها، بل هو نتاج تلك السنوات. بعدأن ودعت العزوبية، وحتى بعد أن رُزقت بأبنائي الثلاثة، انتظم حالي مع الكتابة، وبات لي برنامج عمل كثيف ومتواصل قد تقطعه هذه الحاجة أو تلك من حوائج الحياة العائلية، لكن لا ينقط. بي عطشٌ داخليٌّ للمعرفة والتأمل وتعلم الحكمة، وبحثي في الشعر والشعرية وما يؤديان إليه يأتي جوابًا عليه، جوابًا بلا جواب. يقول إليوت: “أجمل وأعمق نقد هو النقد الذي يكتبه الشعراء النقاد”، هل تتفق مع هذا الرأي باعتبارك شاعرا وناقدا، وكيف ذلك؟ أتفق معك، وقد لا أتفق. صحيح أن الشعراء النقاد الذين يبحثون في الشعر إنما يأتون إليه من خبرة متراكمة وملازمة طويلة لأسرار القصيدة، غير أنه ينقصهم في أحايين ما معرفة بالمنهج، فتجد بعضهم يغرق الوصف في تأويلات لغوية لامتناهية لا سند لها في التحليل النصي. ومع ذلك، إذا رجعنا إلى تاريخ النقد الحديث وجدنا أنّ أهمّ الكشوفات والإضاءات التي أفادت شعرنا العربي وقدّمته إلى جمهور القراء، تمّت على أيدي شعراء نقاد، من أمثال: أدونيس، يوسف الخال، صلاح عبد الصبور، علي جعفر العلاق، محمد بنيس، تمثيلًا لا حصرًا. أهمّ نقاد الشعر ومنظّريه هم الشعراء أنفسهم، الذي يعرفون أنّ الكتابة تذهب نحو ما لا تعرفه، نحو ما ليس لها، أي نحو مُمْكنها الذي تتنصّت عليه النظرية.بطبيعة الحال، هذا لا ينتقص من نقاد أكاديميّين متمرّسين ساهموا بقدر وافر في الرقيّ بالذائقة النقدية. لكن يبدو لي أن نقد الشعراء هو أكثر سلاسة وأكثر كشفًا، يعنى بإبداعيّة اللغة ومحسوسيّة الرؤية في التحليل. وإن كان يهمُّه هو الآخر المعرفة بالمنهج، لكنّه لا يصير مريض النظرية، غارقًا في شكليات البحث والنزوع السكولائي. بالنسبة إلي، أشعر أن هناك تجاوبًا بين الشعر والنقد، وهو تجاوب فعاليّتين تتحاوران في الذهاب-الإياب، وكل منهما يلبي حاجةً نفسيةً، علاوةً على ما ينهضان به من أعباء المعرفة والتأمل والبحث. من الشعر، إلى النقد، ثم السيرة الذاتية، لماذا لم ينجذب عبد اللطيف الوراري إلى سحر السرد؟ هو ليس انقلابًا على الشعري أو سأمًا من فضاء القصيدة، بقدر ما أني أردت أن أجرب الكتابة في صفحة أخرى، صفحة أكثر وحشة وصمتًا من صفحة الشعر التي لن أهجرها لأنها تشبهني أكثر من غيرها. وجدت في السرد إمكانًا مختلفًا للقول أو لتخييل الذات التي كتبتُ بها سيرتي الذاتية (ضوء ودخان). صحيح أن معظم شعري هو سيرة ذاتية على نحو من الأنحاء، غير أن تسريد الذات يأخذك إلى مسارات أخرى تحتاج فيها إلى شيء من الوصف والتفصيل الوقائعي الذي يفتقدها الشعر بحكم طبيعته النوعية. استوقفتني كثيرا في تجربتك الشعرية قصيدة “قالت لي النخلة” في ديوان “من عُلوِّ هاوية” (منشورات بيت الشعر في المغرب – الرباط 2015). لغة وإيقاعا وتصويرا ورؤية ورؤيا. ماذا تمثل لك هذه القصيدة في وجدانك وتجربتك؟ تمثل في وجداني أيام طفولتي في القرية، وفي تجربتي تمثل انفتاح شعري على السرد بشكل واضح. وللقصيدة مناسبة أذكرها هنا؛ فقد حصل أن عدت إلى القرية بعد سنوات طويلة من الغياب، ووجدت بعض التغيير طرأ عليها، إلا أن ما استرعى انتباهي وأثار فيّ شجونًا قديمة هو مشهد النخلة المحزن، إذ أهوت على الأرض شبه متحجرة، وهي التي كانت في الماضي باسقة كالمنارة ترشد التائهين، وهي التي كانت تلوّح لي من بعد عشر كيلومترات كلما نزلت من الحافلة مترجّلًا نحو منازل الأهل، وهي التي كانت يوم اخضرارها تسكت جوع معدتنا وتفرح بنا. والأغرب أنها لم تكن واقفة في صف نخيل، بل كانت وحدها وكأنّها جاءت من مكان بعيد وحلّت بالقرية مثل امرأة منبوذة تبكي تغريبتها القانتة كل فجر. في القصيدة ألمحت بالرمز إلى شيء من هذا، وإلى حال الشتات الإنساني بين ماضٍ وحاضر، لكني جعلتها استعارة كلية تومئ إلى تفاصيل من سيرتي الذاتية حيث اليتم والعذاب والنزوح، أو إلى “بحة الزمن الضائع” كما جاء في هذه القصيدة. “هل لك طقوس وحالات مخصوصة في كتابة القصيدة؟ وهل تعود إليها من أجل تنقيحها وإعادة كتابتها؟”. هذا سؤال طرحته على أكثر من شاعر في حواراتك السابقة، نوجهه إليك بدورك؟ لا طقوس لي بالمرّة. مَثَلي مثل الذي يحتمي بظلال ذاكرته وماء مخيّلته لا يحتاج إلى طقوس. عليك أن تتوقع مجيء السطر الأول للقصيدة في أيّة لحظة، ومن ثمّة أن ترعاه وتحميه من الاستسهال بجهدك، وترغب فيه بشهوتك، فإنّ الشهوة نِعْم المعين. ولا لديّ أوهام للكتابة أيضًا. ما أحرص عليه هو واجب الإصغاء الذي يحفزني على تدبير عزلتي الكثيرة في غضون السطر المفاجئ. قد يكون هناك طقس ما، لكنه سرعان ما يتوارى خلف أدخنة الحالة الشعرية التي أدخلها ولا أعي مآلها إلا في لحظة الارتجاع والتنقيح . تواجه بحماس وجدية تجارب الحساسية الجديدة في الشعر العربي، المغربي خاصة. ماذا تقصد بهذا المفهوم؟ وما هي أهم الإضافات الفنية التي جاءت بها هذه الحساسية الجديدة، وأبرز عيوبها؟ كان مصطلح الحساسية متداولًا في النقد الأدبي خلال العقدين الأخيرين، ولاسيما بعدما أطلقه الناقد إدوارد الخراط في مقاربته للكتابة عبر النوعية في السرد. وأحيانًا كان المصطلح يستخدم بلا فائدة منهجية أو وعي نقدي. وليس بدعًا أن أقول إن كتابي (في راهن الشعر المغربي) أعاد الاعتبار لهذا المصطلح منهجيًّا وأجرأه ضمن قراءته للشعر المغربي المعاصر، بل استبدل به مفهوم الجيل الذي كان متداولًا بين الدارسين لكن لم يعد له ما يقول. مفهوم الحساسية بوصفه أداة إجرائية يتركّز على بيان أثر الإبدالات الجمالية التي طالت فضاء القصيدة المعاصرة، أو تلك التي اعترت المادة الشعرية في نصوص الراهن باعتبار اجتهاداتهم واقتراحاتهم النصية ووعيهم باشتراطات الزمن وتاريخيّة الكتابة فيه. وهذه الحساسية ليست حكراً على الشعراء الجدد، بل يكتب بها وداخلها شعراء يقدمون إلينا من أجيال وتجارب سابقة، وهو ما يُمثّل حافزاً وعبئاً إضافيّاً على الاستمرار في رهانهم الجمالي على تحديث الشعر المغربي. إنها نتاج سياق سوسيوثقافي ضاغط يستجيب لمؤثّراته الراهن الشعري ويتفاعل معه باستمرار وعلى وتائر لا قدرة لنا على قياسها إلا بعد تحقق التراكم النصي. وهكذا من السابق أن نتحدث عن عيوب هي من طبيعة كل تجربة جديدة لها ما لها وعليها ما عليها. استهوتك السيرة الذاتية في الشعر من خلال مقارباتك لعدد من تجارب الشعر الحديث والمعاصر، أو من خلال حوارك السيرذاتي في كتابيك “علي جعفر العلاق: حياة في القصيدة” و”عبد الكريم الطبال ناسك الجبل: حوار في الشعر والحياة”،أو من خلال حواراتك الأدبية مع شعراء الستينيات والسبعينيات التي نشرتها في حلقات بجريدة (القدس العربي). ماذا وراء هذا الاهتمام؟ وما حدود العلاقة الملتبسة بين الشعر والسيرة الذاتية؟ وإلى أي حد تعتبر هذه الحوارات مداخل نصية لفهمالشعر العربي في المغرب؟ كانت ثمة على الدوام شذرات سيرذاتية لأنا الشاعر في قصيدته، غير أنّه ابتداءً من الثمانينيات من القرن العشرين، أي منذ أن بدأ الشعر العربي يتخفّف من أحابيل الإيديولوجيا، صار الشعر يطرق بقوة باب السيرة الذاتية، فاسحًا المجال لصعود مستمر ولافت لأنا الشاعر السيرذاتي الذي يتكلّم زمنه وحداثته وتواريخ تفرُّده. وإذًا، لم يعد السيرذاتي يُشكِّل بُعْدًا أو مُكوِّنًا نصّيًا فحسب، بل خصيصة بنائية أو بؤرة رئيسة في البنية العامة للنص الشعري إلى حدّ أن بات يُمثّل خطابًا نَوْعيًّا يطّرد حضوره عند الشعراء وهم يستثمرون سيرهم الذاتية شعريًّا بطرق وآليّات مختلفة. عندما تنتقل السيرة الذاتية إلى الشعر، فإنها تتخفف من قواعد تآلفت معها داخل السرد لتتخذ صيغًا وممكنات جديدة نابعة من الإملاء الشعري. من هنا، علينا أن نُحرّك مفهوم السيرذاتي ولواحقه (النثر، الاسترجاع، الذات، المرجعية، التطابق..)، لنجعله يتجاوز عتبة المتن السيرذاتي السردي أو التخييلي، ويعنى بكيفيات صوغه شعريًّا، أي بالممارسة التي اتخذتها مُكوِّناته ضمن البنية الشعرية، متسائلين: هل استطاع الحدّ الشعري أن يعيد تحديد السيرة الذاتية ويفقدها صلاحيّتها، وهي تنتقل من قيد النثر إلى الشعر باعتباره خطابًا وفعالية لُغويّة خاصّيْن ؟ كيف يُشكِّل الخطاب السيرذاتي، في سياق اهتمام الشاعر العربي به، طريقةً خاصّة في بناء القصيدة وفضائها التخييلي بمجمل قيمه الخاصة، أو في العبور بها إلى السرد؟ في هذا السياق، تأتي العناوين والحوارات التي أنجزتها وأجبت فيها عن أبرز القضايا التي تحدثها العلاقة المتوترة بين السيرة الذاتية والشعر، بين الشخصي واللاشخصي. إن الشعر، وهذا أحد أسباب انشغالي بالموضوع بحثيًّا وأكاديميًّا، يجب أن يتوجه أكثر إلى الأدب الشخصي الذي هو من طبيعته النوعية، وبخاصة في ظلّ انفتاحه على تقنيات الكتابة الجديدة بما تتطلبه من سرد وتخييل ومحو. كما أن الشاعر المعاصر وهو يتحدث عن جوانب من سيرته الذاتية بأي طريق من الطرق، إنما ينقل إلى الجيل الجديد مختبره الذاتي بإشراقاته ونواقصه، ويجعل من جذوة الشعر متّقدة عبر الذوات. هل يحقّ لنا أن نتكلم عن شعر مغربي؟ وهل كنا نتحدث عن شعر غير مغربي في كل الأوقات. بالفعل، هناك اهتمام متصل للمغاربة بالشعر والقصيدة، وقد ازداد عدد ممثّليه بصورة غير مسبوقة. لكن إذا أردنا أن نرتفع بالنقاش إلى مستوى آخر من الفهم، يمكن أن نقول إن الحديث عن “شعر مغربي” بهذا الوضوح والشمول هو غير موجود؛ لأننا ما نعرفه عنه وما نتداوله من نصوصه كباحثين ومهتمّين، لا يمثل – في نظري- إلا نسبة قليلة منه أو دون ما نطمح إليه. ينبغي أن نضع في الاعتبار أن الشعر المغربي متعدد في لغاته وأساليبه ومتخيّلاته ومقترحاته وآفاقه الجيوثقافية، وأن أكثره غير مقروء ومكتشف في الغالب. من هنا، علينا أن نتواضع في حديثنا عن الشعر المغربي رهانًا. وأن نتوجه إلى نحو بناء شعرية مغربية تشرع في توثيق النصوص ومقايستها في مختلف أشكالها اللغوية والأنواعية والتعبيرية(عربي، عامي، حساني، أمازيغي، قصائد عمود، وتفعيلة ونثر وومضة وتبراع وإنشادن..). باختصار، كيف تنظر إلى: الشعر؟ هو تلك الشمس التي رسمها طفل بالطبشور، وأخذ ينفخ فيها. القصيدة؟ قصيدة وراء قصيدة كأنّنا نشدُّ التجاعيد إلى بعضها البعض في وجه الحياة الجهم. الصفحة الشعرية؟ تظلّ أبدّاعلى دين المحو. الأسلوب؟ فنّ السهل الممتنع. الفايسبوك؟ إذا تركت كل شيء جانبًا، فإنه يمثل سانحة حقيقة لكي ينمو الأدب الشخصي في ثقافتنا المعاصرة. بدر شاكر السياب؟ روح شعرية عظيمة. كلما حلّتْ ذكرى رحيله الفيزيقي، أتخيّل أنه يطلبني على الهاتف لنزهة في أغوار جيكور. صلاح عبد الصبور؟ في القاهرة، وجدته ما زال يقرأ “مأساة الحلاج”، وحوله الناس يضحكون. أحمد بركات؟ نصوصه هي التي أوحت لي بانبثاق حساسية جديدة في الشعر المغربي، وهو لذلك مدانٌ في كل الأوقات. عبد اللطيف الوراري؟ أعتقد أني نسيته في مكانٍ ما، وقد يكون على الأرجح حصوةً في نهر كبير.