على مر التاريخ لم تكن الأوبئة حكرا على زمن أو جغرافيا محددة، وإنما تصاحب البشر في مختلف العصور والأزمنة، وفي ظل هذا الجو الذي يخيم فيه وباء كورونا على العالم ومعه المغرب، ارتأينا السفر عبر الذاكرة والوقوف على جوائح وأوبئة واجهت أسلافنا وخلفت خرابا ونزيفا بشريا ترك ندوبا عميقة في الذاكرة المغربية، يعكسها الخوف والتوجس وقسوة الموت الذي أعقب سنوات الطاعون والكوليرا، والجذام والجذري والتيفويد والقحط والجراد. وتحتضن الخزانة المغربية متونا عديدة ومتنوعة، صاغها إخباريون ومؤرخون قدامى ودراسات باحثين معاصرين إضافة إلى أبحاث أوروبيين عايشوا محطات مؤلمة ومأساوية من تاريخ المغرب، سنحاول الترشد بها لنطل عليكم في هذه النافذة الرمضانية التي سترصد الجوائح التي ضربت المملكة واكتوى بها المغاربة. الجذري.. الوباء الوحيد في التاريخ الذي استُئصل تماماً في عام 1867 اكتسح وباء الجذري مدينة مراكش بضراوة إلى حد أنه لم يسلم من بأسه إلا القليل من السكان، وفي سنة 1878 ومن 7 شتنبر إلى 16 أكتوبر فتك المرض في الدارالبيضاء ب 987 شخصا، حسب ما ذكره محمد الأمين البزاز في “معلمة المغرب”، نقلا عن التقارير التي تركها الأطباء الأجانب الذين عاصروا تلك الفترة، وكانوا يستقرون في المغرب. ويعد الجذري مرض فيروسي شديد الخطورة، حسب منظمة الصحة العالمية، يسببه فيروس “فاريولا” (Variola)، وهو فيروس كبير نسبياً كان يؤدي إلى ظهور بقع تتطوّر لاحقاً إلى بثور صغيرة، ثم تتحول تلك البثور إلى ندوبٍ عميقة، ويصاحبه ارتفاع حاد في درجة حرارة الجسم، ثمّ يظهر بعدها طفح شديد على الجلد. وبعد سنة 1912، لم تفلح جهود الحماية الفرنسية في القضاء على الوباء، الذي ظل محتلا المدن والحواضر، ففي ربيع 1919 كان يفتك ب7 إلى 10 أشخاص في اليوم الواحد بأبي الجعد. وهكذا تم إحصاء أكثر من 2500 حالة إصابة مؤكدة خلال سنة 1934 في المنطقة الخاضعة للنفوذ الفرنسي، كما سجلت حالات أخرى في السنوات 1916، 1919، 1923، 1927، ليعاود الوباء الظهور من جديد 1932، 1941، 1942. ويعود فضل اكتشاف لقاح الجذري إلى الطبيب الإنجليزي إدوارد جينير عام 1796، الذي كان طبيبا في بلدة صغيرة في إنجلترا اسمها “باركلي”، وخلال عمله لاحظ أن أيدي الحلابات كانت تصاب أحيانا بفيروس جذري البقر فتظهر عليها آفات موضعية تكمن فيها قدرة احتمالية على الحماية من الجذري الذي يصيب الإنسان. وبفضل لقاح الجذري الذي اكتشفه جينر، أعلنت منظمة الصحة العالمية بعد قرنين من اكتشافه، في عام 1980، القضاء نهائياً عليه، وهو الوباء الوحيد في التاريخ الذي استُئصل تماماً، أي أنّه المرض الوحيد الذي تمت محاربته في جميع بلدان العالم.