عند إطلاق أحد الصواريخ على المباني في حلب... تتسارع الاصوات للبحث عن ناجين وسط الأنقاض هنا وهناك، بينما يحمله شخص ويدخله إلى سيارة إسعاف لمحاولة إنقاذه عقب القصف العنيف المدوي،خرج الشباب وكل الساكنة ذعرا.... أخرجوه من تحت الأنقاض رث الثياب.. حولّ الركام لون ملابسه إلى رماديٍ،ووجهه ملطخ بالتراب والدماء يسار وجهه،يمسح قطرات الدم التي تسيل وتدغدغ قسمات ملامحه البريئة... يجول بعينيه أمامه بلا بكاء في ذهول.... تم وضعه على كرسي سيارة الإسعاف... بهدوء يجلس .. بسكون يستسلم .. بدماءٍ تنزف من جبينه ينحيها في توادة.. بدون دموع تنساب على خديه باحثا عن امه..بلا صراخ صاخب، بلا أنين موجع... بنظرات بريئة ينظر إلى الجميع يصوّبون نحوه كاميراتهم.. وبصمت هادىء يستقبل عدسات الكاميرات.. يرفع يده يمسح الدم المنساب على جبينه.. ينظر إلى يده المخضبة بالدم والتراب والغبار.....ينظر إلى أحمر الدماء في كفه.... يسارع ليمسح يده بالكرسي...يرفعها ثانية يمسح دمه عن عينه....ينظر إلى يده تحلل الدم بالتراب مشكلا مزيجا اخافه.... فهو لا ينزف.. ولا يبكي ....ولا يصرخ...فقط صامتا.. يجلس بهدوء.. ينظر ويصمت..وكأنّما لا يوجد ما يُقال وما يروى من حكايات مرعبة.. ولم تعد هناك مآسي يُذرف الدمع من أجلها.. حتّى النزيف انقطع كما الدمع انحبس وجف....إنه عصي الدمع وسط براثن قصف محى معالم المباني،و اباد أسرا تتجرع أوجاعا و الاما لحرب لن تدع أوزارها. ....
على كرسي الإسعاف يجلس، و كأّنه على كرسي قيادة العالم يقبع.. وكأنّه اسد يقود الحرب ضدّ طفولته المغتصبة... يطوف بنظره محدقا غير ابه عبر كاميرات مصوبة نحوه باندهاش لحالته ورد فعله الصادم ...كأنّه ينظر في أعينهم مباشرة متسائلا ومستجوبا عما يجري..و معلنا للعالم أنّه ما زال حيّاً يرزق رغم كلّ الدمار الاسن... بلا والديه.. وينظر دون عتاب ... محملا لتقديم الاسعافات الاولية ...ليعود بعد ذاك الى الموت ،حيث القصف كل لحظة،والموت الوفيرالذي يطوف في الارجاء يسرق الارواح البريئة كل دقيقة ويرفع حصيلة الموتى كل حين وسط انهيار النساء ونحيبهن وتكبير الرجال منكسرة قلوبهم ومحترقة اكبادهم...هكذا في ساحات وشوارع حلب.... مجازر يومية تقتل أطفالا وأمهات وشباب ورجال، وتقتل معهم براءتهم وطفولتهم وامالهم في حلب واليمن وفلسطين وبورما والعراق... مجازر صامتون عنها...لاهين عنها بملذاتهم وشهواتهم... لكن يصرفهم عنها بنظرة عنفوانية حادقة ...نظرة بلا قهر،بلا ألم، بلا عتاب.... صامتون عن الحقّ كارهون... و زاهقون للعدل، في وجه أحلامه البريئة.... رفع الطغاة طيرانهم و صوبوا أسلحتهم..سلبوا لعبته ... نهبوا بسمته .... قزموا اجنحته...... فقط ينظر إليهم بلا لعنة وبلا انتقام. .. فقط يحدّق إليهم بلا عتاب.. وحتى الدموع رفضت الانسياب والتساقط على الخد وسط هذه الوحشية...بلا ذنب اقترفه.... انه عمران، انه طفل شاء له القدر الحياة،وقدر له ان يعيش احلاما على ايقاع قذائف تخترق الاجواء ظلما....وان يستمر في ضحكاته بين الانقاض الرهيبة....ورغم الدمار لا يزال حيا في انتظار موت آخر مفاجأة قد ينجو منه ويهلك كما أقرانه يتربص بهم الموت الذي يحوم على رؤوسهم مدة وهم يعبثون. ..بدون ذنب يذكر.... بلا استفسار يسجل .. ولا حركة يقوم بها...لا يبكي.. ويُبكي من راه.. يبكى الصخر والحجر...والحيوان الشجر ...ولا يبكى البشر ...ولكن يقاوم بلا حركة،وفي صمت... يجف دمعه ...وتجف عبراتنا دون اسف ولا تأسف لبراءته وطفولته....هو نفاق إذن...بلا رحمة ولا شفقة ...تتناثر فلذات اكباد وفي صمت مطبق نعلن الثورة في دواخلنا .... بلا وهج ولهب، ولا أثر لكلماتنا ولا زوبع تثار.....
لا يبحث عن إجابات لما انتابه،ولا استفسارات لإنقاذه من تحت الأنقاض دون إخوته القابعين تحتها مستسلمين للموت شهداء.. لا يبحث عن مشاعر،عن حب أم وحنان أب.... فقط يتساءل عن عجزنا...وعن صمتنا، استمتاعنا في البيوت القصور...وعن تيهنا في الحانات ...ولهفتنا وراء المومسات...واستلقاءنا على الرمال في الشواطىء....يحدّق في شلل حركاتنا واعاقة فكرنا....ويتامل في طغيانهم واستمرار مجازرهم....يحيي اوجاع صبرا وشاتيلا بنظراته نحو العالم... عمران ذي الخمس سنوات.... الطفل البريء.... لا لحظة لديه للدم ليمسحه عن جبينه.. لا وقت لديه ليذرف الدموع.. ولا زمان لديه للعتاب ...بل للانتظار .... على هذا الكرسي ينتظر يومٌاآخر من الحياة في ميدان الوغى... في منتجع الموت .. لكنّه حي و سيحيى غذا تحت أهوال حلب، ليحدّق فينا جميعاً بلا بكاء .. ويبكينا بصمته و بالتفاتته.. و بسكونه..إلى أجل غير مسمى..