المبحث الثالث : من أجل مقاربة أكثر شمولية لتأسيس الحق في التنمية و حقوق الإنسان في التعاون الدولي . إن المقاربة السابقة تعد مفيدة، و هي تشكل خطوة إلى الأمام بالمقارنة مع الواقع السائد، غير أنه يجب أن ينظر إليها على أنها خطوة ضرورية ينبغي أن تتكامل مع مقاربة أكثر شمولية لتأسيس الحق في التنمية و حقوق الإنسان من خلال أنشطة التعاون الدولي عبر الأممالمتحدة. و في نظرنا فان هذا التأسيس بما يتطلبه من إعادة النظر في المذهب الموجه لأنشطة التنمية، يتطلب شروطا سياسية و ثقافية مسبقة تسمح بتوفر الإرادة السياسية التي تترجم بزيادة الالتزام السياسي إزاء التنمية و حقوق الإنسان. و انطلاقا من ذلك فان أربعة شروط تعد أساسية و متكاملة لتأسيس هذه المقاربة الشاملة. و هي تعد في نفس الوقت بمثابة مؤشرات على توفر الإرادة السياسية في هذا المجال و هذه الشروط تتمثل في توسيع التأسيس ليشمل حقوق الشعوب إلى جانب حقوق الإنسان في التعاون الدولي، و رفع العراقيل التي تعيق التنسيق الشامل و الناجح لأنشطة التعاون الدولي و إقرار الإصلاحات المؤسساتية الكفيلة بمعالجة قضية التنسيق و حل مسألة تمويل الأنشطة الإنمائية. المطلب الأول : توسيع التأسيس ليشمل حقوق الشعوب إلى جانب حقوق الإنسان. إن المقاربة السابقة التي تقتضي بدمج اعتبارات حقوق الإنسان في أنشطة وكالات التنمية الدولية تدعو هي نفسها في كثير من جوانبها إلى إدماج هذا التأسيس في مقاربة اشمل و تنسيقه مع بقية أنشطة الأممالمتحدة و لاسيما في مجال حقوق الإنسان غير إننا نود إن نوضح هنا أن الحق في التنمية يتضمن حقوقا للشعوب اقتضي بدورها أن تدمج في أنشطة التعاون الدولي حتى يكون التأسيس مستجيبا تماما للمذهب الشامل و المنسجم الذي ينبني عليه. و قد حث المفوض السامي لحقوق الإنسانية في لقائه مع أعضاء اللجنة الإدارية للتنسيق (التي يرأسها الأمين العام للأمم المتحدة و تضم كل المسؤولين عن وكالات التنمية و المنظمات المتخصصة الدولية بالأممالمتحدة). في دورتها الأولى سنة 1994 على ضرورة دعم هذه الهيآت لإعمال الحق في التنمية . إن دعم حقوق الإنسان في حد ذاتها كحقوق مدنية و سياسية و اقتصادية و اجتماعية و ثقافية يتطلب احترام و إعمال حقوق الشعوب، فبما أن دعمها أيضا مسؤولية المجتمع الدولي – رغم أن تتحمل المسؤولية الأولى عن احترامها و توفير الشروط اللازمة لإعمال- فان هذه الشروط تتطلب رفع العراقيل الخارجية و القبول بقواعد أكثر عدالة في العلاقات الاقتصادية الدولية. فإذا كان واضحا اليوم أن الحقوق المدنية و السياسية نفسها تتطلب موارد مالية لضمان التمتع بها للجميع، فإن الأمر يبدو بداهة بالنسبة لعدد من الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية. و إذا استعمال عقلاني و عادل للموارد المتاحة للدولة يفكي مبدئيا مبدئيا بالحد للتمتع بالحد الأدنى الضروري من هذه الحقوق، فإن بعض الدول الأشد فقرا لا يمكنها الاعتماد على مواردها الذاتية و حدها للنهوض بهذه الحقوق بشكل لائق و تدريجي، و أكثر من ذلك، فإن طبيعة العلاقات السياسية و الاقتصادية الدولية اليوم لا تسمح للكثير من الدول باستعمال عقلاني و عادل لموردها الذاتية. إن التعاون الدولي يجب تأسيس كحق للشعوب في خدمة حقوق الإنسان، فعن طريق دمقرطة أكبر و عادلة أكبر في العلاقات الدولية يجري ربطها بإحكام بدمقرطة أكبر و عدالة أكبر في العلاقات الداخلية يمكن تشجيع المشاركة السياسية و إشباع كافة حقوق الإنسان. و يتم هذا الربط المحكم من جهة عن طريق تأسيس التعاون الدولي في أنشطة التنمية و تنسيقه في إطار الأممالمتحدة و فق المذهب المنسجم المشار إليه و الشروط الأخرى التي سنتناولها فيما يأتي، إضافة إلى تأسيس حقوق الإنسان في وكالات التنمية الدولية، و من جهة ثانية عن طريق تأسيس التعاون الدولي تنسيق في مجال حقوق الإنسان مع ربطه بأنشطة التنمية المؤسسة كما تحت بصدد تحليلها . إن دعم حقوق المشاركة و دعم الديمقراطية بالتالي يتطلب في الفترة المعاصرة التي نمر بها إضافة لردع الدكتاتورية، و ذلك بتشجيع الأنظمة الديمقراطية. و إن أحد الشروط الأساسية لذلك و التي تتطلب معالجة عاجلة هو إعادة النظر في السياسات التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية على هذه الأنظمة، غالبا للوفاء بديون، أو لمعالجة أوضاع، كان سببها أنظمة قمعية سابقة. إن تطبيق هذه السياسات إلى جانب عدم عدالة المبادلات الاقتصادية الدولية لهو ضرب للأسس الاجتماعية و السياسية بالتالي، لهذه الأنظمة الديمقراطية الوليدة و الهشة. و من شأنه إرساء خيبة أمل المواطنين الذين توسموا فيها بداية للتغير و تحسين أحوالهم المعيشية. و قد يدفعهم ذلك للارتماء في حضن حركات متطرفة أو سياسة ديكتاتوريين. فالديمقراطية لن تقوم و تترسخ بمجرد مساعدات على وضع دساتير جديدة و إقرار التعديدية الحزبية أو مراقبة الانتخابات... رغم أهمية هذه الإجراءات، دون تمتيع المواطنين إضافة إلى حقوق المشاركة، بحد أدنى من الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية لإرساء طبقة وسطى و متعلمة قادرة على ممارسة حقوق الديمقراطية و الدفاع عنها و ممارستها و تنميتها. و لن يتسنى بناء هذه الطبقة الوسطى دون سياسات اجتماعية هادفة و مستوى معيشي لائق. و هذه السياسات بدورها تتطلب علاقات تجارية أكثر تكافؤا، و حمائية أقل، و مقاربة أخرى لمشكلة الديون، و نقلا حقيقيا للتكنولوجيات و الخبرات و إصلاحا فعليا لنظام الأمن الجماعي، حتى تنفق أموال باهضة في التسلح من قبل أنظمة مهددة داخليا و خارجيا. إن دعم التمتع بحقوق الإنسان الاقتصادية و الاجتماعية يتطلب أكثر من مجرد إقرار شبكات للضمان الاجتماعي في إطار نفس السياسات الداخلية و الدولية المنتجة للفقر و للأوضاع التي تتطلبها هذه الشبكات. إن الاقتراحات الذي تضمنه تقرير التنمية البشرية في العالم لعام 1994 حول ضرورة إقرار ميثاق اجتماعي عالمي بمناسبة القمة الاجتماعية تحت رعاية الأممالمتحدة التي ستعقد في 1995 يشكل احد أوجه تأسيس التعاون الدولي في مجال التمتع بجملة من الخدمات المرتبطة بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية ( التعليم، الرعاية الصحية، التغدية، التوفر على الماء الشروب و خدمات التطهير، الوصول إلى القروض لضمان فرص شغل مستقلة ). و يعد أمرا إيجابيا أن يشير التقرير إلى أن الأسس اللازمة لإعداد مثل هذا الميثاق موجودة، فالعهد الدولي حول الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية يشمل جل الأهداف القابلة للقياس من منظور اجتماعي و خاصة الحق في الغداء و في الصحة و في السكن و في التعليم و في الشغل... إن وضع ميثاق اجتماعي عالمي أمر مستعجل فعلا ظفر إيديولوجية السوق، و لكنه يجب أن يندرج في إصلاح شامل منبثق عن مذهب متماسك يعيد النظر في شكل التعاون الدولي كما يمارس حاليا، لا أن يكون ترميما للشروخ الاجتماعية و الإنسانية و البيئية الخطيرة التي يحدثها هذا النوع من \" التعاون الدولي \". ومن الناحية القانونية فان جعل ميثاق الأممالمتحدة للتنمية مسؤولية جماعية تفرض تأسيس الحق في التنمية كحق من حقوق الإنسان و الشعوب في إطار المؤسسات العاملة داخل الأممالمتحدة، كما يفرض مراعاة اعتبارات حقوق الإنسان و الشعوب في كل أنشطة التنمية. ذلك أن المشاكل الجماعية بطبيعتها و التي يعد ملتزما بحلها تتطلب في نظام للمسؤولية الجماعية، يمكن من تلك الحلول . وهناك سبب أخر يدعو لهذا التأسيس الشامل، و يتمثل في فشل المعالجة القطاعية غير المحكومة بمذهب منسجم أو مقاربة مندمجة متكاملة، حيث تعالج مشاكل التجارة، و التمويل، و الاستثمارات، و التعليم، و الصحة، و الحقوق الإنسان، و البيئة .... بشكل منفصل في إطارات خاصة و طبقا لأنماط من المنطق و المذاهب لا تخضع غالبا إلا لموازين القوى أو أهمية منظور كبار المانحين. و كأنها مجالات لا علاقة بينها و لا تأثير متبادل، في حين أن الفكر التنموي و الواقع العملي يخبرنا ليس عن عدم قابليتها للتجزئة و المعالجة المنفصلة، بل عن التقسيم التعسفي لوحدتها الاصلية. ففي الوقت الذي أصبحت التنمية شاملة الابعاد و تتضمن حقوق الانسان كمكون اساسي كما تتصمن البيئة كمعد ضروري، لم يعد من المقبول معالجة هذه المشاكل بشكل منفصل. لقد ظهر جليا أن حقوق الانسان لا يمكن فصلها عن حقوق الشعوب، و أن الابعاد الداخلية تتفاعل مع الابعاد الدولية في قضايا التنمية و حقوق الانسان، و أن السلم و التنمية و حقوق الانسان تدعم بعضها بعضا كما عبر عن ذلك الامين العام للامم المتحدة : \" و يجب أن تقوم التنمية الحقيقية لاي دولة على اساس مشاركة السكان، و هذا يتطلب توفر حقوق الانسان و الديمقراطية، و لكي يتأتى ذلك لا ينبغي للديمقراطية أن تستقر داخل الدولة فحسب، و لكن فيما بين الدول في المجتمع الدولي، و لا سبيل الى الحفاظ على الديمقراطية داخل الدول على مر الزمن إلا اذا ارتبطت بالتوسع في الديقراطية بين الدول و على جميع مستويات النظام الدولي . و ما لم يستتب السلام فلن تتحقق و لا الديمقراطية. و ان لم تحقق التنمية، فقدت الديمقراطية قاعدتها، و جنحت المجتمعات الى الوقوع في هوة الصراع، و بدون ديقراطية لن تحدث تنمية مستديمة، و بدون التنمية المستديمة، لا يمكن الحفاظ على السلام أمدا طويلا\". تقرير الامين العام للامم المتحدة شتنبر 1993 و لا يكفي الاعتراف بهذا الترابط بل انه يجب استخلاص العبرة من ذلك على مستوى تأسيس التعاون الدولي بشكل منسجم، فقد اعتبر فريق العمل الجديد حول الحق في التنمية أن الطابع متعدد الابعاد للحق في التنمية يتطلب أن تعمل كل اجهزة و مؤسسات الاممالمتحدة بشكل جماعي و بانسجام لتحقيق الغايات المشتركة، و أن نقص التنسيق داخل نظام الاممالمتحدة يعد عرقلة كبرى امام اعمال الحق في التنمية . أن كثرة المتدخلين في أنشطة التعاون الدولي لاجل التنمية هو الذي يحتم التنسيق، هذا الاخير اصبح مسألة استعجالية كما بذلك الامين العام للامم المتحدة . و يعد التنسيق ضرورة تقتضيها ترجمة المذهب المنسجم الى اعمال منسجمة في اطار انشطة مختلف المتدخلين و فيما بينهم. و التنسيق الجيد هو الذي يمكن من تحقيق ثلاث غايات: 1- تفادي تضارب و تناقض الانشطة بحيث يبطل مفعول بعضها البعض الاخر. 2- تفادي ازدواج الانشطة و الجهود مما يؤدي الى هدر الامكانيات أو عدم العدالة في استعمالها. 3- اقرار تعاون و تكامل بين الاجهزة و البرامج لتحقيق غايات مشتركة و ينيط ميثاق الاممالمتحدة مسؤولية التنسيق بالجمعية العامة للمنظمة و عن طريقها بالمجلس الاقتصادي و الاجمتاعي بصفة خاصة. و هذا التنسيق بموجب الميثاق يهم برامج و انشطة الاممالمتحدة و المؤسسات المتخصصة، و يتم اساسا عبر التشاور معها، و عقد اتفاقيات معها، و توجيه توصيات إليها. غير أن الاممالمتحدة لم تنجح كثيرا في القيام بتنسيق فعال و مثمر لانشطتها و انشطة المنظمات المتخصصة بحيث يسهم بشكل ملموس في تحقيق عاياتها ، وذلك رغم الجهود الجبارة التي بدلت في ميدان التنسيق و مختلف الاليات التي اسست لذلك. و يمكن الاشارة الى اهم اسباب الفشل بايجاز: فالاطار القانوني للتنسيق نفسه، الا وهو الميثاق الاممي و الاتفاقيات المبرمة مع المنظمات المتخصصة لا تعطي للمنظمة و للمجلس الاقتصادي السلط الكافية للقيام بتنسيق فعال. فعدد من الاتفاقيات مع المنظمات المتحصصة تحتفظ لهذه الاخيرة بكامل الاستقلال، و تضعف من سلطة المنظمة في ميدان التنسيق، و هذا الامر اشد وضوحا بالنسبة للمؤسسات المالية، في حين انها هي تأثير على سياسات التنمية.