خلال جولات عديدة من المباحثات بين وفد اسرائيلي يترأسه من الجانب الاسرائيلي، يوسي بيلين، مهندس أوسلو وعضو حزب العمل الاسرائيلي السابق، ميريتس حالياً، ومن الجانب الفلسطيني وزير الاعلام السابق ياسر عبدربه، تم التوصل إلى ما بات يعرف باتفاق جنيف. وقد عقدت المباحثات برعاية سويسرية، وكانت آخر جولاتها قد عقدت في فندق على شاطئ البحث الميت ما بين التاسع والثاني عشر من شهر تشرين أول/ أكتوبر الجاري. ويتوقع الاعلان عن نص الاتفاق في غضون الأسابيع المقبلة. أول ما يلفت الانتباه في المفاوضات، سيما الجولة الأخيرة، هو طبيعة الوفدين المتحاورين، ففي حين تشكل الوفد الفلسطيني من رموز كبيرة ومهمة وذات موقع ونفوذ في السلطة وحركة فتح (هشام عبدالرازق، نبيل قسيس، محمد الحوراني، قدورة فارس ...)، فقد تشكل الوفد الاسرائيلي من مجموعة من رموز حزب العمل واليسار الاسرائيلي ممن لا يملكون سلطات مهمة في الدولة. وفي حين حظي الوفد الفلسطيني بغطاء من طرف السلطة لم يجد الوفد الاسرائيلي إلا الهجاء ليس من طرف شارون وحده، بل ومن رموز في حزب العمل أيضاً، منهم أيهود باراك. بالنسبة لمضمون الاتفاق، فإن من الانصاف القول إن حيثياته تتقدم على نحو ما على ما تم عرضه على الطرف الفلسطيني في قمة كامب ديفيد، منتصف العام 2000، والتي كان ينبغي لها أن تنتج الاتفاق النهائي لمسيرة أوسلو، وهو ما لم يحدث، ما مهد الطريق أمام اندلاع انتفاضة الأقصى بعد ذلك بشهرين. هذه الأفضلية لا تعني أن الاتفاق قد حمل تنازلات جوهرية من الاسرائيليين تصل حدود المطالب الفلسطينية المتمثلة في الأراضي المحتلة عام 67 كما تنص على ذلك قرارات ما يعرف بالشرعية الدولية 242، 338 و194. من أبرز الملاحظات على الاتفاق هو تنازله الواضح عن حق العودة للاجئين، فقد تحول هذا الحق إلى تكريس للوضع القائم، مع تشتيت لبعض اللاجئين بين الدول الكبرى، مع استضافة الدولة العبرية لبضع عشرات من الآلاف على نحو إنساني إذا رأت ذلك، وبما لا يخل بمبدأ يهودية الدولة الذي جرى النص عليه في الاتفاق، مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر مستقبلية على أكثر من مليون فلسطيني يشكلون 20% من مواطني تلك الدولة. أما مسألة الحدود والأراضي والسيادة فكانت اشكالية إلى حد كبير، ذلك أن حصول الفلسطينيين على 100% من الأرض كما ذكر بعض المشاركين لم يتضمن ما التهمته بلدية القدس الكبرى من مساحة الضفة الغربية، كما لم يخف أن ذلك قد تم بمبادلة أراضي الكتل الاستيطانية الكبيرة بأراضٍ في صحراء النقب وحول قطاع غزة، وهي أراضٍ لا تساوي شيئاً إذا ما قورنت بالأراضي التي اقيمت عليها المستوطنات، والتي ترقد على الجزء الأكبر من مصادر المياه في الضفة الغربية، فضلاً عن كونها تقطع أوصال الدولة الفلسطينية على نحو لافت. مسألة السيادة والحدود كانت مشكلة أخرى، إذ أن الدولة العتيدة لن تكون كاملة السيادة، فهناك سيطرة دولية مشتركة على المعابر والحدود وبحضور اسرائيلي، وسيطرة اسرائيلية على الأجواء، ومحطات انذار مبكر اسرائيلية في الضفة الغربية ووجود عسكري في الغور، وسيادة على المعبر أو النفق أو الجسر بين الضفة وغزة. مع نص واضح على كون الدولة منزوعة السلاح. المشكلة المهمة الأخرى هي المتعلقة بمدينة القدس والمسجد الأقصى، ذلك أن اعتماد مبدأ كلينتون القائل بأن الأحياء العربية للعرب واليهودية لليهود لم يقدم شيئاً على صعيد بقاء المدينة تحت السيادة الاسرائيلية وبقاء المستوطنات الكبيرة على حالها، في حين تكون الأحياء الأخرى تحت نظام حكم ذاتي للفلسطينيين. أما المسجد الأقصى فقد جرى تقسيمه عملياً، وإن بقي نظرياً تحت السيادة الفلسطينية، ذلك أن وجود أجزاء منه "الحائط الغربي" تحت سيطرة اليهود مع سيادتهم على المدينة سيعني بقاء وجودهم العملي والمسيطر عليه، حتى لو تم ذلك تحت إشراف هيئة مشتركة للأديان الثلاثة كما نص الاتفاق. وبذلك يمكن القول إن القدسالشرقية التي تنص القرارات الدولية على عودتها إلى الفلسطينيين قد جرى اقتسامها مع اليهود، ومعها المسجد الأقصى نفسه. خلاصة القول هي أننا بإزاء اتفاق يبتعد كثيراً عما نصت عليه القرارات الدولية، أي دولة فلسطينية كاملة السيادة عاصمتها القدسالشرقية على الأراضي المحتلة عام 67. أما الأسوأ في سياق دلالات الاتفاق فهو رد الفعل الفلسطيني المرحب والاسرائيلي الناقم أو الناقد، وهو ما أعطى الانطباع بأن الاسرائيليين هم أصحاب الحق وأن الفلسطينيين هم الذين يبتزون التنازلات وليس العكس. ألا يعد ذلك مدعاة للحزن والقهر؟!