في 20 ماي 1960 تم إعفاء عبد الله ابراهيم من مهامه كآخر شخص سيحمل صفة رئيس حكومة سيعرفه المغرب بعد الاستقلال. حكومة يعتبرها المغرب كانت ستضعن بحكم الصلاحيات السياسية المهمة التي كان يتمتع بها رئيسها وفريقه الحكومي المغرب على سكة التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحقيقية. لكن بعذ إعفاء عبد الله ابراهيم وإنتاج أول دستور للمغرب سنة 1962 سيدخل المغرب عهد الوزراء الأولون واعتبار الحكومة "عبارة عن موظفون سامون" لايضعون بالضرورة السياسة العامة للبلاد. فغابت بالتالي مسؤولية الحكومة كسلطة تنفيذية حقيقية مسؤولة عن تدبير الشان العام وتكلف بوضع السياسة العامة للبلاد وإدارتها. لقد استمر هذا الوضع حتى دستور 1996 بالرغم من أن هذا الأخير كان ينص على "أن الحكومة تعمل على تنفيذ القوانين تحت مسؤولية الوزير الأول والإدارة موضوعة رهن إشارته" غير أن هذا التعديل لم يصل درجة تكليف الحكومة بتحديد السياسات العمومية وتدبير وإدارة الشأن العام في سياق ربط المسؤولية بنظام المحاسبة. بعد 50 سنة من هذا الوضع، ستأتي التعديلات الدستورية لفاتح يوليوز 2011 لتعيد النظر في مؤسسة رئيس الحكومة ومؤسسة الحكومة ذاتها، إذ أصبحت الحكومة بمقتضى هذه التعديلا المطلوب أن تمارس السلطة التنفيذية كجهاز فعلي كامل الصلاحيات ومسؤول مباشر على القطاع العام والسياسات العمومية، حيث يصبح رئيس الحكومة ، المنبثق من أغلبية برلمانية منسجمة وواضحة المعالم وذات برنامج حكومي مدقق، المسؤول الأول على تسطير وتنفيذ السياسات العمومية و تدبير الشأن العام عبر إدارة موضوعة رهن إشارته. إنها محاولة لولوج زمن سياسي جديد يتسم بالفصل الفعلي للسلط. زمن مثقل بثقل الملفات الموروثة، وباالانتظارت القوية للمجتمع. في هذا السياق الذي يتسم باستعادة مؤسسة الحكومة صلاحياتها الدستورية والسياسية والقانونية باعتبرها المسؤولة عن تنفيذ السياسات العمومية، تواجه رئيس الحكومة الذي سينبثق عن اقتراع 25 نونبر مجموعة من الانتظارات والتحديات. فالتحديات التس ستطرح أمامه بارزة وملخصها: إصلاح سياسي حقيقي، وإخراج القوانين التنظيمية والمؤسسات الدستورية التي نص عليها دستور 2011 إلى حيز الوجود، أيضا ورش الانتخابات الجماعية القادمة. إضافة إلى إعادة الإطار الماكرواقتصادي المختل إلى سكة العافية، والقطيعة مع اقتصاد الريع والفساد والرشوة. تحديات مرتبطة أيضا بإصلاح الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي تعيشعا أغلب المغاربة. إنتظارات مستمدة من الصلاحيات الجديدة الدستورية الممنوحة لرئيس الحكومة، وكذا من التعهدات التي قطعتها مختلف البرامج الانتخابية للأحزاب السياسية. في هذا الملف، نحاول الإجابة على عدد من الأسئلة، منها: ماهي المكانة الدستورية التي يضطلع بها رئيس الحكومة برسم تعديلات دستور2011؟ وماهو السياق السياسي والمجتمعي الذي سيتحمل فيها رئيس الحكومة المقبل مهامه؟ وماهي طبيعة تحديات حكومة مرحلة مابعد اقتراع 25 نوبر؟ وماهي أبرز الملفات التي تنتظر رئيس الحكومة المقبل من منظور عدد من النخب الفنية والاقتصادية والدينية والمدنية المغربية؟ *** من أبرز الاختلالات التي كانت تعاني منها الوثيقة الدستورية والتي عالجها دستور 2011، ضعف منصب الوزير الأول ومؤسسة الحكومة. كان مبتدأ هذا الضعف، الذي عانت على ضوئه مجمل السياسات العمومية بالمغرب، أن الدستور المغربي حتى تعديلات 1996 كان لا يسمح بالتداول الديمقراطي على السلطة انطلاقا من نتائج الاقتراع العام الذي كان من المفروض أنها تعبر عن إرادة الشعب، بحيث أن نتائج الانتخابات التشريعية لاتفرز بالضرورة مؤسسة الحكومة والوزير الأول، ومن ثم لا يسهم في تمكين المواطن من حقه الكامل في تقرير مصيره السياسي، واحترام الدور التمثيلي للأحزاب السياسية وإضفاء المعنى السياسي على الاستحقاقات الانتخابية. هذا الخلل هو الذي جاءت التعديلات الدستورية الأخيرة في الباب الخامس للوثيقة الدستورية الخاص بالسلطة التنفيذية لمعالجته ، في إطار تكريس مطالب الطبقة السياسيةى الداعمة للإصلاح الديمقراطي. فماهي أبرز ملامح التحول في صلاحيات السياسية والدستورية لمؤسسة رئيس الحكومة؟ أولا: انتظارت نابعة من الصلاحيات والاختصاصات في الخطاب الملكي ل 9 مارس 2011، والذي واكب الحراك المجتمعي المغربي والربيع العربي، وفي سياق المرتكزات السبعة لمحاولة تغيير بنية النظام السياسي بالمغرب في اتجاه الإصلاح الديمقراطي، جاء المرتكز الرابع لينص على: توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها، من خلال: أولا، برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة، يتبوأ فيه مجلس النواب مكانة الصدارة، مع توسيع مجال القانون، وتخويله اختصاصات جديدة، كفيلة بنهوضه بمهامه التمثيلية والتشريعية والرقابية. ثانيا، حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، وتحظى بثقة أغلبية مجلس النواب. ثم تكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي، الدي تصدر انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، مع تقوية مكانة الوزير الأول، كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية، وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي، أيضا دسترة مؤسسة مجلس الحكومة، وتوضيح اختصاصاته. وفعلا جاءت الإصلاحات الدستورية التي أقرها دستور فاتح يوليوز 2011 لتقوية مؤسسة رئيس الحكومة وتوسيع صلاحيات الجهاز التنفيذي كأبرز مطالب الطبقة السياسية المغربية وأحد مطالب المجتمع المدني المغربي. وعبر تلك الإصلاحات الدستورية، أصبحت مكانة مؤسسة الوزير الأول ترتكز على العناصر الخمسة التالية: أولا، أخذ نتائج الاقتراع المباشر في انتخابات مجلس النواب بعين الاعتبار عند تعيين رئيس الحكومة. ثانيا، التنصيص على مسؤولية الحكومة في تحديد وإدارة السياسة العامة للبلاد تحت مسؤولية رئيس الحكومة. ثالثا، إقرار انعقاد مجلس الحكومة دستوريا برئاسة رئيس الحكومة كل أسبوع لمناقشة السياسات القطاعية المختلفة وتحضير مشاريع القوانين والمراسيم التي تعرض على المجلس الوزاري، والتسمية في الوظائف المدنية السامية. رابعا، إمكانية تفويض جلالة الملك لرئيس الحكومة ليرأس المجلس الوزاري بناء على جدول أعمال مسبق. خامسا، وضع الجهاز التنفيذي والإدارة تحت تصرف رئيس الحكومة ووضع حد لتلك الازدواجية أثناء الممارسة في تحديد السياسة العامة للدولة. إن المسؤولية في الثقافة الديمقراطية تعني بالضرورة تسييس وظيفة رئيس الحكومة ووظيفة باقي أعضاء الحكومة. وهو تسييس يبدو طبيعيا بالنظر إلى انبثاق الحكومة من الإرادة الشعبية المعبر عنها من خلال صناديق الإقتراع، والمترجمة في ضورة أغلبية نيابية. لذلك فدسترة المنهجية الديمقراطية تعني تكريسا لفكرة المسؤولية وتجسيدا لروح النظام الملكي البرلماني. لذلك فالحديث عن رئيس الحكومة كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية وقيادة تنفيذ البرنامج الحكومي، يقدم إعادة تعريف دستوري وسياسي لمؤسسة رئيس الحكومة. هذه التحولات الدستورية تسعى إلى التكريس القانوني والسياسي لمقولة أن المسؤولية السياسية المنطلقة من قاعدة حيثما السلطة يجب أن تكون المسؤولية ، تعد جوهر الفكرة الديمقراطية، وطبعا فإن مسار دمقرطة النظام السياسي المغربي يرتبط أساسا بتقوية فضاءات المسؤولية وإجراءاتها ومساطرها. لذلك فهذه الديمقراطية رهينة بتعزيز الطابع البرلماني، تعزيز لا يمكنه إلا ان يتجله في وضعية مؤسسة رئيس الحكومة ومؤسسة الحكومة. لذلك فمن خلال النص الدستوري أصبحت الانتظارات المعقودة على رئيس الوزراء ومؤسسة الحكومة "قوية" وهي تستدعي تستدعي مرحلة بداية ارتقاء العمل الحكومي إلى عمل محكوم بضوابط فصل السلط والمسؤولية والمحاسبة والخضوع للتقييم الدوري، لتصبح فعلا أدوات مصاحبة وتأطير استراتيجي لمشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية في إطار الاختيارات والبرامج التي تبلورها وتقررها وتعطي الحساب بشأنها المؤسسات التمثيلية. ثانيا: انتظارات نابعة من البرامج الانتخابية إن الانتظارات المعقودة على رئيس الحكومة الذي سينبثق من انتخابات 25 نونبر 2011 تجد صداها أيضا من خلال مجمل التعهدات والالتزمات الواردة في مختلف البرامج الحزبية. ذلك ان اي تحالف مقبل سيكون مضطرا إلى التحاتلف على أساسا برنامج حكومي يستمد خطوطه العريضة من البرامج الانتخابية المطروحة حاليا. ونتوقف عند أبرز ملامح هذا الإلتزامات: أ- حزب العدالة والتنمية من خلال برنامجه الانتخابي يدعو إلى التمكين للحكامة الجيدة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخارجية، والقائمة على الديمقراطية الحقيقية والمسؤولية والمنافسة الشريفة والشفافية والنزاهة والمنطلقة من قراءة متجددة لمرجعيتنا الإسلامية وهويتنا المغربية المتعددة المكونات، من أجل استثمار أمثل للإمكانات والفرص. كما أسس برنامجه على أساس الأهداف الخمس الكبرى لبرنامج العدالة والتنمية. كما خصص البرنامج 1500 من الإجراءات المتنوعة ابتداء، من الصحة ومرورا بالتعليم والاقتصاد والتنمية البشرية، ووصولا إلى مناخ الأعمال والمنظومة الضريبية. ب- حملت الأرضية البرنمجاتية المشتركة لأحزاب الكتلة، العديد من النقاط التي تمحورت حول الانتقال من مجتمع الوصاية إلى مجتمع المواطنة المسؤولة، مع إتمام بناء الدولة الديمقراطية، وإرساء ميثاق اجتماعي جديد، وسياسية اقتصادية إرادية وتفعيل جيل جديد من الإصلاحات قوامه نجاعة حكامة الدولة. وكذا تقوية أدوار الدولة في حماية حقوق وحريات وأمن وسلامة الوطن والمواطنين وتحقيق التكافؤ والتضامن بين الجهات وبين مختلف الفئات المجتمعية، وتوسيع دائرة المشاركة ومجال الحريات، وإقامة وتفعيل وتطوير الآليات المؤسساتية والقانونية الكفيلة بتخليق الحياة العامة والقضاء على مختلف مظاهر الفساد والتسيب والإفلات من العقاب. ج- يشمل برنامج التحالف من اجل الديمقراطية (رؤية في أفق 2016) ثلاثة تحديات و20 التزاما. ويلتزم التحالف في هذا الإطار بتعزيز البناء الديمقراطي من خلال التنزيل الأمثل للدستور، وبناء الجهوية وجعلها إطارا للتدبير لضمان خلق الثروة وتعزيز الديمقراطية التشاركية، كما تلتزم أحزاب التحالف بوضع نظام فعال للحكامة يربط المسؤولية بالمحاسبة لضمان نجاعة السياسات العمومية. د- الاتحاد الاشتراكي: في إطار مشروعه يلتزم الاتحاد الاشتراكي بتوجيه العمل الحكومي نحو المساهمة الفعلية في بناء أسس اقتصاد قوي ومجتمع العدالة والإنصاف من خلال مباشرة إصلاحات هيكلية وجريئة على بنية ونمط التطور الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والثقافي وتحديد الأدوار المنوطة بمؤسسات الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني ودمقرطة آليات المساهمة الخلاقة للفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين، في ظل مقتضيات فصل السلط وحكامة الشأن الاقتصادي والاجتماعي التي ينص عليها الدستور الجديد. إرساء مقومات مشهد سياسي موضوعي المنشود من خلال 182 إجراء. ه- حزب الاستقلال: ان الهدف الأساسي في برنامج حزب الاستقلال خلال الولاية التشريعية المقبلة هو التنزيل الديموقراطي للدستور الجديد في شقيه الحكامة والمواطنة. فبخصوص الحكامة فحزب الاستقلال يعتبرها من المداخل المركزية للتنزيل السليم والحقيقي للدستور الجديد وفي الآن ذاته هي ارضية اساسية يجب ترسيخها وتقويتها لضمان دولة المؤسسات مؤسسات قوية وذات شرعية وفعالية. حزب الاستقلال يعتبر المواطنة الحقة الكاملة بدون تمييز شرطا اساسيا لاي مطمح للتنمية والرقي يضمن الكرامة والحقوق لكافة المواطنين. إن الالتزمات والتعهدات الواردة في مختلف البرامج الانتخابية للأحزاب المتنافسة على مقاعد مجلس النواب 395 سيجعل من مهمة رئيس الحكومة المقبل، وفريقه "صعبة"، وذلك في سياق عربي ودولي يشجع على الحراك الشعبي والمجتمعي، ولكن في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية "جد ضاغطة". ثالثا: انتظارات بحجم التحديات المطروحة إلى جانب الانتظارات المجتمعية لدور رئيس الحكومة الذي سينبثق من استحقاقات 25 نونبر المستمدة من خلال الصلاحيات السياسية والدستورية لمؤسسة رئيس الحكومة، وكذا الانتظارات الآتية من البرامج الانتخابية، تنضاف غليها حجم الانتظارات التي تطرحها مختلف التحديات المطروحة على تدبير الشأن العام لمغرب مابعد 25 نونبر. ذلك أن التفاعل مع انتظارات المواطنات والمواطنين التي يتوقون الى تحقيقها في مجالات الشغل والصحة والتعليم والسكن وتوفير الحياة الكريمة ورفع الظلم ومظاهر الحكرة وكذا محاربة الفساد والقضاء على اقتصاد الريع والامتيازات. كل ذلك في سياق تحديات المرحلة القادمة في أفق 2016، التي تتجلى في تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية وضرورة تحقيق التوازنات الماكرواقتصادية في مستويات تمكن من الحفاظ على سيادة القرار الاقتصادي الوطني، وتنفيذ الالتزامات التنموية والاجتماعية. إن التنزيل الديموقراطي للدستور الجديد: (الحقوق الجديدة واتساع مجال الحريات – فصل السلط – استقلال القضاء – ربط المسؤولية بالمحاسبة – الجهوية المتقدمة) سيعد من أبرز الملفات التي ستطرح على طاولة رئيس الحكومة المقبل. إن الاصلاح عملية مستمرة ومعقدة ومتشابكة المحاور والمحددات، وتتطلب بشكل أساسي تهييئ الظروف لتنزيل عناصره على مختلف المستويات. لذلك فإن ورش الاصلاح السياسي يبقى من بديهيات مواصلة عملية الاصلاح الديمقراطي بالمغرب. إصلاح يبدأ بتوضيح العلاقلات السياسية بين مختلف الفاعلين الأساسيين في الدولة، لذلك يصبح الأوراش السياسية والقانونية المتمثلة في إخراج القوانين التنظيمية إحدى أهم مداخيل الدمقرطة للشأن العام بالمغرب. فهل سيستعيد المغاربة ذكرى رئيس الحكومة السابق عبد الله ابراهيم الذي يذكر المغاربة أن حكومته التي لم تدم سوى 18 شهرا ( دجنبر 1959 إلى ماي 1960) قد وضعت المغرب على سكته الصحيحية لتحقيق الاقلاع السياسي والاقتصادي قبل أن تعمد رياح إلى تعطيل الورش 50 سنة؟ للإطلاع على الملف اضغط هنا