في إطار ترشيد العلوم الإسلامية دون شطط أو إجحاف بها، وجب أن نذكر بالحقائق التي عاش عليها الأولون، ووضعوا ميزان الذهب في هذا العلم الشريف، وذلك للحياة وللأخرى. وقد وقعت الغفلة ببعض هذه القواعد فانجر معها ما لا يحصى من السيئات والشرور. فآثرت أن أتكلم في بضع مقالات عن أمهات هذه القواعد التي لم تأخذ التصدر في الجانب العملي. القاعدة الأولى: السنة النبوية علم وعمل - الكلام مسؤولية وسواء أكان بحق أو بغيره، فالمرء مسؤول عن كلامه يوم يلقى الناس ربهم، ويوم تجتمع عند الله الخصوم. قال تعالي:( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:81). وفي حديث معاذ الطويل وقوله صلى الله عليه وسلم:» وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم». وضمن عليه الصلاة والسلام الجنة لمن ضمن ما بين لحييه، فقال:« من يضمن لي ما بين لحييه، ضمنت له الجنة». وأبان عليه السلام جزاء من يتهاون في مسؤولية الكلمة، غير ناظر إلى وخيم عواقبها وسيء آثارها، فقال:«وإن الرجل ليتكلم الكلمة في سخط الله لا يلقي لها بالاً، تهوي به في النار سبعين خريفاً». وقد تعجب ابن القيم رحمه الله تعالى من الاستخفاف بمحرمات اللسان، والتعرض للناس عند كثير من المتدينين، فقال:«من العجيب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والربا، والزنا، وشرب الخمر، ومن النظر إلى المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى يري الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمة في سخط الله لا يلقي لها بالاً ينزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل تورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الناس الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول». -الكلام في الناس ضرورة وهذه قاعدة شرعية متينة، وهي أن الكلام في الناس فرضته الضرورة وألجأت إليه الحاجة الماسة. وقد تبين بجلاء من خلال هذه القاعدة التهور في الكلام في الناس، والتوسع في نيل أعراضهم، مع أن الكلام في أصله محظور، لا يباح هذا المحظور إلا عند الضرورة، وما أبيح للضرورة لا يجوز التوسع في الإباحة، وإنما يكون ذلك بقدر. ويلبس الشيطان على المتكلمين أنهم يحرسون الدين؛ ويحمون البيضة؛ ويدافعون عن الشريعة، ويغفلون عن حقائقه الكبيرة، أنهم يفتحون بابا للرعونة وسيء الأخلاق، ويدربون ألسنتهم على التطاول، واستمراء فاكهة المجالس. أما علماء الحديث فقد لزموا شرعهم، وذبوا عن سنة نبيهم، وحافظوا على أخلاقهم وأعراضهم. فلا تجد أحكامهم إلا كلمة أو كلمتين عند الجرح والتعديل. ومما تنبه له علماء الحديث عند الإنكار على من يرتكب الحماقات في تحمل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بالوضع أو بالضعف في التحمل والأداء، أو بغيرهما، فقالوا: إن الكلام في الناس محرم لا يجوز، وإذا جاز المحرم لضرروة شرعية معتبرة، فينبغي أن يكون هذا الكلام مقدرا بقدره، ومضيقا في أمره. فالتزموا ذلك وأرشدوا إلى وجوب التزام هذا المنهج. فلذلك تجد في كتب الرجال: فلان ضعيف، أو ليس بشيء، أو تكلموا فيه ..الخ. وكانوا لا يرضون السفاهة في القول عند جرح، وأن على المسلم الحفاظ على كريم أخلاقه حتى في الدب عن دينه، فلا ينساق وراء ما يفعله الآخرون، وإنما عليه أن يلتزم مكارم الأخلاق معهم، فليسوا هم قدوته في المسايرة، وإنما هو دينه الأكرم. يقول المزني تلميذ الشافعي رحمهما الله تعالي: سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول: فلان كذاب، فقال لي: يا إبراهيم: أُكْسُ ألفاظك أحسنها، ولا تقل كذاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء. فهؤلاء مع أنهم من أهل النار يقينا لما ورد عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير ما يمنعك أن تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث عنه أصحابه. فقال: أما والله لقد كان لي منه وجه ومنزلة، ولكني سمعته يقول من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. ومع ذلك أبى هؤلاء العلماء أن يتجاوزوا القول فيهم، والانتصاف منهم بالإفاضة في الكلام عنهم. وإنما اقتصروا على ما به يُعرف حالهم، ويُدفع منكرهم. ويأخذك العجب أن تجد بعض المشتغلين بالعلوم الشرعية يؤلفون الكتاب والكتب في مثالب فلان أو فلان لا يدعون شرا إلا سطروه وإن بالظن والرجم بالغيب. -اللهم لا تحاسبني على غيبة أحد كان سيد الجرح والتعديل بصدق وبالإجماع أمير المؤمنين البخاري، مع التقوى والورع في الذب عن كلام سيد الخلق، كثير القول:» أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أنني اغتبت أحداً». وقد علق الإمام الذهبي على مقالته بالقول:» صدق رحمه الله، ومن ينظر في كلامه في الجرح والتعديل، عَلِمَ ورعه في الكلام في الناس، وإنْصَافَه في من يضعفه. حتى أنه إذا قال: فلان في حديثه نظر؛ فهو متهم واه. وهذا معنى قوله: ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً. وهو غاية الورع». ثم قال ثانية:» ويشهد لهذه المقالة كلامه رحمه الله في التجريح والتضعيف، فإنه أبلغ منا يقول في الرجل المتروك أو الساقط: فيه نظر أو سكتوا عنه. ولا يكاد يقول: فلان كذاب، ولا فلان يضع الحديث. وهذا من شدة ورعه». القاعدة الثانية: البدعة لا تنافي العلم والفقه وقد يكون الرجل من أهل البدع، وذلك لا ينفي عنه العلم والفقه، فالنَّصَفَةُ تقتضي الشهادة له بذلك، مع عدم متابعته فيما هو فيه من البدعة. وعلماء الحديث أخذوا رواية المبتدع وإن كان على ضلالته، ولم يشترطوا فيه إلا الشروط العلمية، وهي الضبط والإتقان وعدم الشذوذ. والشروط الأخلاقية، وهي العدالة المانعة من الكذب والتدليس. فإن اتصف بذلك قُبِلَ حديثه وإن كان داعية.وأما ما شاع من أن ذلك مشروط بأن لا يكن داعية، ففيه شيء من المبالغة، إذ كيف يعقل أو يتصور وجود عالم بالشريعة وفي القرون الأولى المشهود لها بالخيرية لا يدعو إلى علمه، ولا ينشر معتقده.ولو لم يكونوا ناشرين لعلمهم، ما أخذوا عنهم هذه الأحاديث، فإنهم أخذوا عنهم ما نشروه وأذاعوه. ولذلك كان الرعيل الأول لا يسمونهم مبتدعة، وإن اعتقدوا فيهم ذلك، وإنما كانوا يسمونهم: المُبَدَّعِين، تخفيفا منهم لسخائم القلوب. - لنا علمه وعليه بدعته وإذا كانت البدعة لا تنافي غيبة العلم عند المبتدع، فإن القاعدة العلمية والتربوية لا يجوز التفريط فيها. أما العلمية فإن المسلم لا يفرط في العلم إذا صدر من أهله وإن لم يكونوا على مذهبنا فيما نقول وندعيه ونعتقده. لأن العلم الذي حصلوه ينبغي البحث عنه وعدم التفريط فيه. وأما التربوية فإنها النصفة في وزن الرجال، فينصفهم فيما عندهم. لا يرى المسلم الناس إما ملائكة أطهار، أو شياطين أشرار. وإنما هم بين هذا وذاك. بل ينظر دائرة الخير والحق كيف السبيل إليه، ودائرة الشر كيف نتجنبها دون أن تكون حائلا بينا وبين الاستفادة.وهؤلاء شيوخ الإسلام لم يكونوا جميعا ممن ترضى عقيدتهم، فالبخاري ومسلم أخرج لمن هم معدودون في أهل البدع. القاعدة الثالثة: لا يلزم من صحة الدليل صحة المدلول وهذه قاعدة وقعت الغفلة عنها، فاعتقد المعتقد أن الحديث إذا صح عنده، لزم من صحته صحة فهمه لما جاء فيه. وهذه سوءة علمية فاضحة. فإن العلماء قسموا النصوص الشرعية من حيث الثبوت إلى قطعية وظنية، وكلاهما يجري عليهما القطع والظن في الدلالة. فإذا كان الثابت القطعي وهو الغالب ظني الدلالة، فلا يليق تحميل فهمك له على أنه هو أيضا قطعي. وهذا يعني أن استدلالك وإن بآية من القرآن لا يعني سداد استدلالك. كما أن الرد عليك لا يعني ردٌّا للآية، وإنما هو رد لما فهمته. فهو ردٌّ للفهم، وليس ردا للنص. فإن كان هذا مع كتاب الله عز وجل، فهو مع سنة محمد صلى الله عليه وسلم أيضا من باب أولى. هذه القاعدة العلمية لا تزال محل غفلة كثير من المشتغلين بالعلوم الشرعية، حيث وقع بسبب غيبتها تجاوزات ومبالغات، يكفي في ذكرها، عدم الرد عليها، لما تحمله من التشدد، وما تجلبه من الحرج. وهذه القاعدة سارية على القرآن الكريم كما على الحديث النبوي الشريف. فقد يكون الدليل الذي يحتج به البعض صحيحا، ولكن فهمه له غير سليم. فليس كل من استدل بدليل يسلم له ما استنتجه من الفهم. ومن أمثلتها: مثال 1: لهو الحديث إذا أخذنا الآية القرآنية التي يجنح لها البعض للقول بحرمة الغناء جملة، وهي قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزؤاً أولئك لهم عذاب مهين) لقمان:الآية6. نجدها بعيدة عن حكم التحريم، ولا تسعفهم ، لسببين: 1 إذا كان المراد باللهو الغناء، فذلك يقتضي أن اللهو حرام ينبغي الابتعاد عنه. فتكون الدنيا حراما ينبغي التخلص مما في يدك من مالها ومقتنياتها، لأن الله تعالى سماها لهوا، في قوله تعالى:(وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) العنكبوت:الآية64، (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد) الحديد:الآية91. 2 إذا كان اللهو حراما فيقتضي مناقضة النصوص الشرعية بعضها بعضا. وهذه معرة بقائل مثل هذا. ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وقد زفت امرأةً إلى رجل من الأنصار: يا عائشة، ما كان معكم من لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو». وحيث دلت النصوص على حرمة بعض اللهو، وإباحة نوع آخر، فقد دل ذلك على أنهما مختلفان ليسا سيان. ولهذا أور القاضي أبو بكر بن العربي الأقوال في الآية، بين قائل: إنه الغناء، وقائل: إنه الطبل، وقائل: إنه الباطل. ثم علق على كل هذه بالقول:» وأصح ما فيه(أي لهو الحديث) قول من قال: إنه الباطل». مثال2: حديث الإسبال: قال صلى الله عليه وسلم:»ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار» والغفلة عن المقصد أنتجت حكم التحريم جملة، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة. قال أبو بكر: يا رسول الله إن أحد شقى إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم. إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء». ومع ذلك فإن هذا الفهم لظاهر النص الأول، وإن كان فيه إهمال للنص الثاني، فيلزم على أقل الأحوال صاحب الفهم ومن اقتنع بفهمه، ولا يلزم من لم ير رأيه. ولا يجوز التظاهر بالحديث فإننا لا نرده ولكن نرد فهم البعض له، وتلك هي قاعدة العلماء: لا يلزم من صحة الدليل إن قلت به؛ صحة المدلول الذي توصلت إليه.