كانت رائحة الكسكس تنبعث من أمام الباب الرئيسي للمسجد.. وجبة أعدها وهيأها محسنون، وقدموها للمساكين والفقراء المرابطين قرب المسجد، صدقة على روح موتاهم...، كانت سعادة تلك المرأة عظيمة لا توصف، وهي تجمع الأواني بعد إطعام كل المساكين الذين كانوا منتشرين على جنبات المسجد يوم الجمعة.. وتطلب منهم الدعاء بالرحمة والمغفرة لوالدتها المتوفاة. ثم انطلقت منتشية بصدى هذه الدعوات، فليس هناك ما يريح النفس أكثر من اًن تبنسم ابتسامة على شفاه كانت عابسة طويلا،وليس أعظم من أن نوفر الخبز لبطون خاوية جائعة...في صورة زاخرة بالحض على نوع من أنواع البر والإحسان، لا تخفى مظاهرها في كل يوم جمعة، الذي يعد يوما استثنائيا ينتعش فيه كرم الناس بكل أشكال الصدقات، وتفيض فيه نفوس المغاربة بالسخاء والكرم، على أساس أن هذا اليوم يحدث فيه الأجرو يزيد الثواب. والصدقات فيه تعد مدخلا من مداخل الترحم على موتاهم. وهي الغاية التي تحرك أشكال سلوك هذا العطاء الذي يفضل سائر المغاربة أن يكون يوم الجمعة موعده المختار على غيره من الأيام، ف ''الصدقة فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع، كالصدقة في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور''. وللذين يخصون هذا اليوم بالصدقة ، ويأتون مثلا بالطعام إلى المسجد ليأكل الناس بعد صلاة الجمعة، أو يقومون بتوزيع التمر والحليب على أطفال المدارس، أو توزيع أعداد هائلة من الخبز الطازج في الطرقات على المشردين، فيما البعض يقصد المقبرة لتوزيع التين المجفف ''الشريحة'' والخبز والحليب، أو سقي الماء...،في هذا السلوك واستثمار الجمعة كمناسبة أسبوعية للتصدق، أن الصدقة في ليلتها ويومها يكون ثوابها أعظم نظرا لفضيلة هذا اليوم. تضاعف الحسنات الصدقة على الضعفاء والمساكين في يوم الجمعة لها مزيةٌ على الصدقة في سائر الأيام، وقد قال ابن القيم: رأيت شيخ الإسلام - قدس الله روحه - إذا خرج إلى الجمعة، يأخذ ما وجد في البيت من خبزٍ أو غيره، فيتصدق به في طريقه سرًّا، وسمعته يقول: إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالصدقةُ بين يدي مناجاته - تعالى - أفضلُ وأولى بالفضيلة. واعتبر بعض الخطباء أن الصدقة يوم الجمعةمن أفضل القربات إلى الله و كذلك كل أعمال الخير،بل هو طاعة يثاب فاعلها،وذكروا أنه يستحب التماس السائل الدعاء، ومما ورد في ذلك قول بعض السلف '' إذا أعطيتموهم فلقنوهم الدعاء فإنّه يستجاب الدعاء لهم فيكم ولا يستجاب لهم في أنفسهم ويكره المن بعد الصدقة..''، فقد أجمع أهل العلم على انتفاع الميت بالصدقة عنه، لما روى سعد بن عبادة أن أمه ماتت فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم. قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء. أما بخصوص تخصيص يوم الجمعة بالصدقة، وإن كان التوجيه العام إلى غير تخصيص الصدقة بوقت معين، لأن التصدق في أي يوم مقبول، فهو من باب من يُجري على ذلك القاعدة العامة في مضاعفة الحسنات باعتبار شرف الزمان، فيحكم بفضيلة الصدقة في يوم باعتبار فضل اليوم ذاته، وأن الحسنات تضاعف باعتبار فضيلة الزمان والمكان، قال ابن رجب في لطائف المعارف: اعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب، منها شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحرم، ومنها شرف الزمان كشهر رمضان وعشر ذي الحجة. ومن أضاف إلى ذلك و''زمان فاضل كيوم الجمعة. وقال ابن عبد البر في الاستذكار وفي التمهيد: روى الأعمش عن مجاهد عن عبد الله بن ضمرة عن كعب الأحبار قال: ''الصدقة يوم الجمعة تضاعف''. اقتران الدعاء بالصدقة و ذهب محمد الأمين عضو سابق بمجلس علمي محلي بالجديدة، مؤكدا على أن الصدقات من المقربات الجليلة التي تضافرت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية على الحض عليها والترغيب فيها و التي لم يشترط لأدائها زمان مخصوص ولا مكان مخصوص ،بل المطلوب (والملكان يدعوان اللهم اعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا ) البدار إليها في كل ساعة من ليل أو نهار في أي مكان يصلح لذلك.موضحا بالقول ''وإذا كان المغاربة قد اعتادوا تخصيص يوم الجمعة بمزيد انفاق وبذل، فذلك مما ينسجم مع ما علم من ديننا الحنيف من أن للأعمال الصالحة فضلا بذاتها ولها فضل زائد متى اقترنت بأزمنة فاضلة أو أمكنة فاضلة أو هما معا:كالصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الاقصى و الصف الاول ... وكصيام يوم عرفة لغير الحاج وست من شوال ..والتربع لذكر الله في المسجد بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس..وكالصدقة في شهر رمضان الذي كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أجود مايكون وأكرم، و العمرة في العشر الأواخر من رمضان...'' وأكد الأمين أنه لما اجتمع ليوم الجمعة من الفضائل و المنن ما لايخفى على مسلم، ولما عد وعاء لأعمال عظيمة مباركة، فإنه من المرغب فيه ألا تشذ الصدقة عن تلك الأعمال لجملة أمور: -لكون يوم الجمعة أفضل الأيام حتى اعتبره بعض العلماء أفضل من يوم عرفة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة..). وبين ابن قيم الجوزية أن الصدقة فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع كالصدقة في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور . -لكون اقتران الصدقة بالدعاء أدعى للاستجابة ويوم الجمعة مظنة ساعة لا يوافقها عبد مومن يصلي يسأل الله فيها شيئا إلا قضى له حاجته . -لأن يوم الجمعة موعد أسبوعي مناسب أن يعضد تكفير الخطايا بالصدقات محو الذنوب بتلك الصلاة العظيمة في ذلكم اليوم العظيم . - وما أجمل أن ترفق الاستجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالاكثار من الصلاة عليه في ذاك اليوم المبارك أو ليلته، بقرب المتصدق على المساكين وقد كان محبا لهم. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من الصلاة علي في يوم الجمعة، فان صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة ،فمن كان أكثرهم علي صلاة، كان أقربهم مني منزلة.). -وفي التمثيل للمبكرين إلى صلاة الجمعة بالمهدين.وجعل كل ساعة يبكر مكافئة بهدية، ما يشي بعظم هذا النوع من المقربات، ومن ثم فطلبه بالصلاة فضل، وطلبه بالصدقة نفسها فضل. - وإنه مما يجمل ما سبق ويزينه أن حرص العبد المؤمن على أن يستزيد من البر والخير في زمان معين بناء على مستند شرعي، وأن يجعله دأبا له، حذرا من الغفلة والشرود عن هذا البر والخير، ليكون شأن المتصدق يوم الجمعة قريبا من حال المعين لشهر رمضان أو العام الهجري مناسبة لأداء الزكاة أو يوم الاثنين موعدا للانفاق...