على امتداد ثلاث أسابيع من العدوان الإسرائيلي على غزة، وبمباركة من العملاء وبتخطيط مع الحلفاء، وبحجة القضاء على حماس اعتمدت اسرائيل في ظروف مواتية لها كل أساليب القصف التدميري من الجو والبحر بوحشية منقطعة النظير، وفي أبشع صور الظلم والإبادة استخدمت كل الأسلحة الفتاكة بما فيها القنابل الفوسفورية المحرمة دوليا، وبتجاهل كل الأعراف والقوانين الدولية قامت بإحراق المنازل والبشر والحجر وخلفت أعداد كبيرة من الشهداء والجرحى جلهم من الأطفال والنساء والمسنين لكي تعلن في الأخير وقف اطلاق النار من جانب واحد، وتنسحب دون أن تقضي على المقاومة ودون أن تفرض عليها أي شروط. بل فرت بتنسيق أمريكي قبل أن تتطور الوساطة الإقليمية التي طفى فوق سطحها الصوت التركي المستنكر لهمجية العدوان إلى مرحلة تلزمها بشروط لا تصب في صالحها . لقد أنهت اسرائيل العدوان خارج النطاق الإقليمي الذي لاتضمن تطورات توجهاته معتمدة على اتفاق أمريكي يمهد لتحرك دولي ينوب عنها في تحقيق ما استعصى عليها تحقيقه عسكريا والذي كانت فيه المواجهة البرية هي الفيصل. لم تتمكن إسرائيل من استخدام القوات البرية والدفع بها إلى قتال استنزافي ضد عناصرالمقاومة في المدن والشوارع والمناطق المأهولة بالسكان وللمرة التانية بعد الهزيمة النكراء أمام حزب الله تخوض حربا بقرار وتخطيط منها وبتوظيف كل الإمكانات العسكرية والإعلامية والسياسية وكل ما أوتيت من قوةٍ وتعجز عن حسم الحرب لصالحها. انسحبت إسرائيل من غزة تجر أذيال هزيمتها دون إسقاط حكومة حماس أو تدمير قواتها بالكامل أو إضعاف قدراتها على التحرك والقيام بالعمليات المسلحة. وظلت المقاومة تدافع عن أرضها وكرامة شعبها حتى اللحظة الأخيرة ولا تزال تشكل قوة شعبية وجماهرية داخل المجتمع الفلسطيني، وتتمتع بعمق سياسي واستراتيجي على المستوى الإقليمي . بل إن المقاومة خرجت أقوى مما كانت عليه، فهي جربت قوتها عملياً في هذه الحرب، وأثبتت نجاعتها، واختبرت ما لديها من وسائل كما طورت استراتيجية إدراة المعركة على الأرض بإمكاناتها المتواضعة بالإضافة انها اكتسبت شرعية عالمية بالإلتفاف الشعبي حولها في غزة و في كل أنحاء العالم. لقد أصبحت المقاومة أكثر تركيبا وأكثر تعقيدا وأوسع رؤية وتراكما في الخبرات وفي الإبداع وبهذا سارت أكثر صلابة وأكثر مناعة وأكثرتهديدا للأمن الإسرائيلي. فالجيش القوي الذي أرعب أنظمة المنطقة لعقود من الزمن لا يقوى على الإجتياح البري ولا يقوى على استئصال المقاومة كما لا يأمن من صواريخها التي تتطور يوما بعد يوم وقد تصل إلى مستوى يهدد كل المدن الصهيونية. فلا الجدار العازل ولا الغزو والعدوان الجوي سيمنع حينئذ الصواريخ من طرد الإحتلال وإنهاء إسرائيل. لهذا ركزت كافة المبادرات التي طرحت للتهدئة في أمريكا أو إسرائيل على وضع آلية لتكبيل هذه الصواريخ والحيلولة دون تطويرها أو انتقال تقنية تصنيعها إلى الضفة الغربية الملاصقة لمدن الاحتلال. لقد شكل صمود الشعب البطل في غزة وأداء المقاومة النوعي انتصارا استراتيجيا أكد حقيقة أسطورة الجيش الذي لا يقهر وساهم في رفع معنويات الأمة العربية للرهان من جديد على منطق المواجهة مع الاحتلال، وتسبب في حرج سياسي كبير للموقف العربي الذي بنى استراتيجيته على التعايش مع الاحتلال وبرامجه التطبيعية والتوسعية. و أسقط بذلك خيار المفاوضات وعزز خيار المقاومة الذي بات الخيار الوحيد الذي يرسم مستقبل القضية الفلسطينية.