هذه القصة حدثت في تركيا.. وتستحق أن تعمم على العالم العربي، عينت إسرائيل سفيراً لها في أنقرة من أصول تركية، ما برح يروي منذ وصوله أنه من مواليد منطقة برغاما القريبة من أزمير الجنوبية، وأنه قضى أربع سنوات هناك، إلى أن هاجرت أسرته إلى إسرائيل في الخمسينيات، لكنه ظل طول الوقت متعلقاً بتركيا، إلى أن شاءت المقادير أن يوفد إليها سفيراً لبلاده، ولم يكن خافياً على أحد أن اختيار هذا الرجل لتمثيل بلاده قُصد به تحسين صورة إسرائيل المتردية في تركيا، التي كشفت عنها استطلاعات الرأي التي تمت خلال السنوات الأخيرة، ودلت على أن أغلبية الأتراك رغم كل جهود الاختراق التي مورست بحق بلدهم طوال نصف القرن الأخير، لا يزالون يعتبرون إسرائيل والولايات المتحدة أعدى أعدائهم. السفير الإسرائيلي الجديد ليفي جابي لم يخيب ظن الذين أوفدوه، إذ ما إن ما وطأت قدماه تركيا، حتى ظل يتحرك في مختلف أوساطها محاولاً كسب ود النخبة التركية، وفي سعيه ذاك، فإنه طلب زيارة جامعة اسطنبول والاجتماع برئيسها، وحين تحدد موعد اللقاء، فإنه اصطحب معه القنصل الإسرائيلي في المدينة، الذي لا يقل عنه نشاطاً وحركة، وقصدا مقر الجامعة التاريخية للقاء رئيسها البروفيسور مسعود بارلاك. في الموعد المحدد، بعد ظهر الجمعة 28/11، كان البروفيسور بارلاك يقف على باب مكتبه في استقبال ضيوفه، الذين دعاهم إلى الجلوس في جانب من المكتب، لكنه لاحظ وجود رجلين معهما توجها دون استئذان إلى غرفة الاستراحة لتفتيشها، وحين سأل عن هويتهما قال القنصل إنهما من فريق الحماية المصاحب للسفير، فطلب البروفيسور بارلاك إخراجهما من الغرفة على الفور، مذكراً الضيوف بأنهم في حرم جامعي، وحسب التقاليد فإنهم منذ دخلوا حرم الجامعة، فإنهم أصبحوا في حمايتها، وما داموا تحت سقفها فلن يتولى أحد حمايتهم غير سلطات الجامعة ذاتها، لكن السفير الإسرائيلي والقنصل المرافق له أصرا على بقاء الحرس في المكتب أثناء اللقاء، عندئذ نهض رئيس الجامعة من مقعده واتجه نحو الباب قائلاً لهما إن الزيارة انتهت، وإنه لا يقبل أن يستقبلهما في ظل هذه الشروط، ثم وجه إليهما الكلام قائلاً: إذا كنتم تصرون على التحرك ومقابلة الناس في تركيا بهذه الطريقة، فالأفضل أن تظلوا في مكاتبكم ولا تغادروها، لأن تركيا ليست مستعمرة حتى تتصرفوا فيها بهذا الشكل، ثم ودعها على الباب واستدار عائداً إلى مكتبه. القصة رواها الباحث التركي الدكتور سمير صالحة في مقال نشرته «الشرق الأوسط» في 2/12 وعلق عليها قائلاً إن الدبلوماسيين الإسرائيليين يشعرون بالقلق وعدم الأمان في تركيا، وأشار في هذا الصدد إلى أن القنصل الإسرائيلي سبق أن ووجه باحتجاجات واعتراضات مماثلة خلال محاولة فاشلة للاجتماع مع المسئولين في الجامعة ذاتها خلال شهر مارس الماضي، كما أن السفير ومعاونه كانا قد تعرضا قبل أيام لتظاهرات احتجاج طلابية كانت تنتظرهما خلال ندوة نظمتها إحدى الجامعات الخاصة حول الصراع العربي الإسرائيلي. ويبدو أن سجل الدبلوماسيين الإسرائيليين في تركيا حافل بمثل هذه المواقف، ذلك أن السفير ذاته ذهب للقاء أحد رؤساء النقابات العمالية، وحين قدمت إليه علبة حلوى فتحت أمامه ليتناول منها واحدة، فإنه رفض قبول الضيافة، وأخرج قطعة حلوى من جيبه قائلاً: إنه يفضل تناول الشيكولاتة الخاصة به، فما كان من مضيفه النقابي إلا أن التهم عدة قطع من الحلوى التي قدمت إليه ليظهر له أنها ليست سامة، وأن ما فعله لا يليق بأي ضيف حسب التقاليد والأعراف التركية. المعنى المهم لكل ذلك أن الشعب التركي لايزال يرفض إسرائيل رغم أن حكومة بلاده اعترفت بالدولة العبرية عام 1949 ، أي بعد عام واحد على تأسيسها، من ثم فإنها قطعت شوطًا بعيداً للغاية في التطبيع معها، الأمر الذي يعني أن كل جهود التطبيع الجارية مع العالم العربي لن تنجح في محو جريمة الاغتصاب الإسرائيلي لفلسطين، وأن التاريخ لن يغفر لها جريمتها وكذلك شعوبنا.