أريد في البداية أن أهنئ مساجين حركة النهضة الذين أطلق سراحهم مؤخرا بمناسبة الذكرى الـ 12 لاستلام الرئيس زين العابدين بن علي السلطة في البلاد. فبعضهم قضى في السجن قرابة 18 عاما، وهي فترة طويلة بالقياس لتاريخ الاعتقال السياسي في تونس، لم يتجاوزها إلا سجناء الحركة اليوسفية الذين نكل بهم الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، بعد اتهامهم بالإعداد لمحاولة القيام بانقلاب عسكري والتخطيط لاغتياله عام .2691 لقد قضى من بقي منهم على قيد الحياة سنوات طويلة قابعين في دهاليز تحت الأرض بسجن برج الرومي الشهير الذي يطل على البحر بإحدى مرتفعات مدينة بنزرت الساحلية. السجن اختراع فظيع توصل له الإنسان ظنا منه أنه الأداة الأفضل بعد الإعدام للقضاء على الجريمة، أو تأديب الآخر المختلف مع السلطة والهيئات الحاكمة. لكن دراسات كثيرة أثبتت أن السجون مهما اتسعت وتعددت فيها وسائل التعذيب النفسي أو الجسدي فإنها لم تنجح في التخفيض من معدلات الجريمة، ولم تتمكن في حالات كثيرة من دفع المعتقلين لأسباب سياسية وفكرية إلى إعلان توبتهم، والانتقال بالجملة إلى صفوف الأنظمة التي حاكمتهم. صحيح أن حركات سياسية عديدة أضعفتها كثيرا مراحل اعتقال قادتها وكوادرها، بسبب عزل الرؤوس عن القواعد، وتقطيع أواصر التنظيم، خاصة بالنسبة للحركات التي اختارت العمل السري. كما كانت السجون في الغالب فضاء خصبا لتفجير التناقضات بين رفاق الدرب الواحد وإخوة النضال المشترك. فكم من عضو ضحى بالنفس والنفيس من أجل الحركة التي ينتمي إليها وطاعة من كان يرى فيهم القدوة الصالحة والذات النقية، ليكتشف داخل السجن وجها آخر لم يكن يتوقعه في خياله. ومن هؤلاء كثيرون زلزلتهم مرحلة السجن، ليس بسبب الخوف من السجان، ولكن بسبب عدم قدرة البعض على الاحتفاظ بأقنعتهم فترة طويلة داخل زنزانة مشتركة، حيث لن تسعفهم الظروف للاختلاء بأنفسهم لفترة يتجردون فيها من مقتضيات العمل السياسي التي تستوجب شيئا من المكياج والألوان التي تفرضها آليات التحكم في الأفراد والمجموعات. وكم من سجين -سواء في صفوف اليساريين أو النقابيين أو الإسلاميين أو غيرهم من التنظيمات- طالب وهو في المعتقل أن يتم نقله من غرفة جماعية إلى زنزانة انفرادية فرارا من حالة السجن المضاعف. فالسجن مع من تختلف معهم قد ينقلب إلى كابوس، ويصبح أحيانا مرهقا للنفس، ومفسدا للأخلاق، ومخربا للذات. إنه امتحان صعب لا يصبر على مخاطره إلا من رحم ربك. أعود لتهنئة من غادروا السجون مؤخرا والتحقوا بأفراد أسرهم ليكتشفوا أن أشياء كثيرة تغيرت بعد 81 عاما من العزلة المفروضة. كبر الأبناء في غياب الأب، وربما مات الوالد أو الوالدة أو كلاهما. ولد جيل جديد للأقرباء. تغيرت الأحياء، تبدل المناخ الاجتماعي والثقافي والقيمي. وستكون الصدمة الأقوى عندما يدرك الخارج توا من سجنه بعد أن قضى فيه زهرة شبابه اعتقادا منه بأنه فعل ذلك من أجل +الشعب والحرية والدين والوطن؛، أن الأقارب وأبناء الجيران والبقال والنجار وبائع مواد التغذية ومواد البناء وزملاءه في الدراسة أو العمل قد انشغلوا طيلة سنوات اعتقاله بمسائل أخرى اعتبروها أكثر أهمية وأعطوها الأولوية في حياتهم اليومية. كثير منهم نسي ما حدث، أما الجيل الجديد فلا يعرف أصلا ماذا حدث، ولا يدرك من الظالم والمظلوم. بل قد يجد نفسه مذهولا عندما يختلي به بعض أقربائه ليهمسوا له في أذنه وينصحوه بأن يعتزل السياسة والسياسيين، ويهتم بنفسه وبشؤون أسرته. إن السجن مقبرة للذكريات والأحداث. مع ذلك وُصف السجن بأنه مدرسة يوسف في إشارة للنبي يوسف عليه السلام الذي قضى سنوات في الاعتقال ظلما بسبب اتهام باطل من زوجة عزيز مصر. فالسجن لمن رزقه الله الصبر فرصة للمطالعة إذا توفر الكتاب، ومساحة للتأمل في التجربة ومآلاتها. هناك من تمكن من التغلب على نزعات التبرير وتمجيد الذات التي عادة ما تلازم المناضلات والمناضلين في كل حركة، وقاموا بمراجعات جوهرية أفادتهم في بقية حياتهم ومسيراتهم النضالية. إذ لا يعقل أن يدفع شخص ما ثمنا غاليا ويعيش تجربة قاسية، ثم يخرج منها صفر اليدين، ليعيد الكرة من جديد بنفس الأخطاء وبنفس العقلية. فالسجن يمكن أن يكون مدرسة إذا تعلم السجين من تجربته وتجارب الآخرين. ما يشدك في العديد من المساجين السابقين لحركة النهضة، تأكيدهم في تصريحات علنية على أن أيديهم ممدودة للنظام، لا ليستعطفوه، ولكن للحوار، بل وأيضا للتصالح معه، واضعين بذلك التجربة القاسية التي عاشوها وراء ظهورهم. قد يرى البعض في ذلك عدم نضج، أو حالة ضعف أو نوعا من الوهم، لكنه في الأصل مؤشر على وجود رغبة لدى العديد من قادة الحركة في تجنب تكرار المواجهة مع السلطة. هم يقولون إن ما حدث في الماضي لم يكن في صالحهم، ولا في صالح البلاد. لكن مشكلة هؤلاء أنهم لم يجدوا في داخل السلطة من يصدقهم ويأخذ بجدية رغبتهم في المصالحة. فأزمة الثقة بين النظام وحركة النهضة لا تزال عميقة، وتحتاج فيما يبدو لمزيد الوقت والاختبار