تعيش الأمة الإسلامية أشد المحن وأعظم الفتن، وتراجعت مكانتها الحضارية وشهدت الشرود الفكري، والاستحمار السياسي، فقدت الدور الريادي الذي كانت تلعبه في الماضي، حيث كانت الأمة الإسلامية من أعظم الأمم، لقد سهل القادة الطريق للعدو الداخلي والخارجي لإضعاف مناعة الأمة حتى لا تعرف جيل المقاومة، فأصبحنا نشاهد في الواقع الحالي كائنات بشرية تعيش الاستلاب وتقليد الغرب في كل شيء حتى أتفه الأمور( في اللباس في الكلام…)، الأمة اليوم لا تستطيع أن تعيش حالة النباهة النفسية كما يسميها الدكتور علي شريعتي رحمه الله، فقد أعطاها العدو جرعات من المخدرات الفكرية، والهروين السياسي، فتم إنتاج أشخاص لا تهمهم قضايا أمتهم، وكذلك خونة يقتلون شعوبهم أمثال السيسي وبشار، وليس في قلوبهم رأفة ولا رحمة، فمن يتأمل العالم الإسلامي يشعر بالجرح العميق ويبكي دموعا من دم، سوريا مذمرة، فلسطين سليبة، العراق مقسم، العالم العربي والإسلامي يشهد مشاكل بالجملة: الفقر، الجهل، الجريمة، الظلم، وغير ذلك كثير. إشكالات: قبل أن أشرع في تحليل هذا الموضوع لابد أن أطرح مجموعة من الأسئلة، وكثيرا ما تطرح في العديد من المناسبات الفكرية وغيرها، فعندما نتكلم عن الاصلاح يتبادر إلى الذهن أن هناك فسادا وجب إصلاحه، لهذا فمشروع الإصلاح يبقى مشروعا مستمرا مادام الفساد يتواجد بين الأمة، فإذا كانت الأمة الإسلامية أمة كتاب ينظم كل الجوانب السياسية والفكرية والاجتماعية فلماذا تأخرت وتقدم الغرب؟ طرحت هذا السؤال على غرار المفكر شكيب أرسلان رحمه الله، فلقد طرح هذا السؤال في كتابه لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ إذا بحثنا في مكتباتنا وجدنا الكنوز العظيمة من المصنفات والمؤلفات، فإذا تعاملنا معها يمكننا أن نفكك البنية الفكرية للعقل السلطوي الذي يجعل من الفكر تابعا للسياسة فيتحكم فيه ويجعله سجينا لنزواته ورغباته، فكم عدد المؤلفين ومؤلفاتهم وما حجم تأثيرهم في واقع الأمة؟ وما هي أولوياتهم في معالجة قضاياها؟ هل نبدأ بالسياسي، أم بالفكري، أم الاقتصادي، أو الاجتماعي، في مشروع الاصلاح؟ جاء ما يسمى بالربيع العربي، وكانت فرصة حكم الإسلاميين، في مصر وتونس وليبيا وبالمغرب أيضا، ولكن سرعان ما تحول الربيع في هذه الاقطار إلى صيف جاف وحار، واشتعل لهيبه فأتى على الأخضر واليابس، وهنا أقول إن المصلح لا يملك رؤية منسجمة تراعي فقه الأولويات ومقاصد الإصلاح في علاج مشاكل الأمة، فلماذا لا نستفيد من التاريخ ودراسته؟ ماهي أهم المشاريع الإصلاحية التي يجب أن تضعها الحكومات الإسلامية في معالجة العراقيل التي تقف أمام تشكيل جيل المقاومة للنهوض بقضايا الأمة الإسلامية؟ فبعد المدخل العام لهذا الموضوع، وطرح مجموعة من الإشكالات سأتناول هذة المقالة في المحاور التالية: المحور الأول: الإصلاح: تأصيله ومفهومه وفلسفته: المحور الثاني: الحركات الإسلامية بدائل إصلاحية: رؤية تقويمية: المحور الثالث: الأولويات والمقاصد في المشاريع الإصلاحية: خلاصات: المحور الأول: الاصلاح: التأصيل، المفهوم، الفلسفة: في هذا المحور لا أريد أن أسرد التعاريف اللغوية والإصطلاحية لمفهوم الإصلاح، فسأتكلم عنه بشكل عام انطلاقا من ذكره في القرآن الكريم، فمن يتتبع هذا اللفظ في القرآن الكريم يكشف أن هذه الكلمة تتفرع عنها ألفاظ واشتقاقات، ويكفي للدلالة على أهميتها أنها مذكورة في القرآن أكثر من مائة وسبعين مرة بأساليب متنوعة وسياقات مختلفة تشترك في مقصد واحد وهو الإعراض عن الفساد واتباع الصلاح، وإن سمحت أخي الكريم أختي الكريمة سأذكر لكم بعض الآيات الواردة في هذا الباب مشيرا إلى المعنى الذي تتخذه مفردة الإصلاح، يقول الله عز وجل: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) (الأعراف:56)، فكلمة الإصلاح هنا قوبلت بالفساد، بمعنى يا أيها الناس لاتفسدوا في الأرض بعد أن عم فيها الصلاح، ومنه قوله تعالى أيضا: (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) التوبة102، فالآية هنا تدلنا على أن العمل ينقسم إلى صالح وسيئ ولا يمكن الجمع بينهما، ووصف الله عز وجل أهل الدعوة إلى منهج الله وشريعته بقوله تعالى:( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) (هود: 88)، فمهمة الرسل والأنبياء هي الدعوة إلى الله وإصلاح ما بالأمة من فساد في التصورات والاعتقادات، وبناء الإنسان روحيا وفكريا حتى يتجاوز كل الأزمات. وعندما نمعن النظر في هذه المفردة بتتبع سياقاتها في القرآن نجدها تتنوع وتتعدد، لكن الغاية منها هي القطع مع الفساد وجعل المجتمع طاهرا تعمه العدالة الاجتماعية والنضج الفكري، يقول الله تعالى: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). وجاء في السنة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله، فقيل كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت، أخرجه الترمذي. وتكمن فلسفة الإصلاح في الإسلام باتباع المنهج الرباني في عملية التغيير والإصلاح، فالإسلام منهج متكامل يقيم حياة الانسان على القرآن، ويقيم القلب على أساس الاعتقاد السليم بتوحيد الله عز وجل، من تم تتوافق القلوب مع القرآن فتصلح وتصلح معها الحياة. المحور الثاني: الحركات الاسلامية بدائل إصلاحية: رؤية تقويمية: يعتمد عمل الحركات الإسلامية أساسا على البعد الشعبي التطوعي المنظم، قصد العودة بالإسلام إلى قيادة المجتمع، ويكون عنصر الإخلاص في هذا العمل التطوعي شرطا مهما في قبول العمل. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: إن الحركة الإسلامية إنما قامت لتجديد الإسلام والعودة به إلى قيادة الحياة من جديد، بعد إزالة العقبات من الطريق. فقراءة تاريخ الحركات الإسلامية بتمعن يجعل من الباحث يقف أمام ملاحظات متعددة، من أهمها مايلي: كانت بداية الحركات الإسلامية مناهضة الاستعمارر، فأغلبها ظهر من أجل الدفاع عن حوزة الوطن… كانت الحركات الإسلامية تركز فيما بعد الإستعمار على الإصلاح الديني فقط، فأغلب التيارات الإسلامية اتخذت المدخل الديني بابا للإصلاح وأهملت باقي الجوانب الأخرى… أما الحركات الإسلامية في فترة ما بعد الإستعمار، فتعيش حالة الصراع مع الحداثة . الحركة الإسلامية في الوقت الراهن تركز عملها على الجانب السياسي وترغب في ركوب السلطة وبلوغ المواقع الحضارية، أكثر من سعيها لبناء الإنسان بعقيدة صالحة وعمل عقلاني فعال. من الناحية الفكرية تبقى الحركة الإسلامية سجينة الفكر التقليدي، فبعض الحركات الإسلامية تنبذ كل المحاولات الإجتهادية الجريئة، فمحمد الغزالي رحمه الله اجتهد اجتهادت استفزت بعض الجماعات الإسلامية فقيل في حقه ما قيل من سب وشتم وصل إلى حد التكفير. عندما عطل العقل داخل الحركات الإسلامية ظهر الفكر المتشدد الذي يرفض كل ما هو حديث وجديد، فظهر شيوخ يفتون الناس في الحلال والحرام وممارسة السلطوية الدينية على الناس باسم الدين، دون أن يتكلموا في روح الدين وجوهره ومقاصده العامة التي جاء من أجلها. تعدد الحركات شوه مفهوم الإسلام الوسطي، فظهرت تيارت فكرية تنم عن هروبها من الواقع وتخاطب الناس باجتهادات بعيدة كل البعد عنه. الحركات الإسلامية تمشي مشية الأعرج لإقصائها المرأة في العمل الدعوي في فترة مضت، لما شعرت بخطورة الأمر استدركت لكن الإشراك مزال محتشما لأنه ليس من السهل القضاء على الفكر المتشدد الذي يفصل بين المرأة والرجل. وجهة نظر: فعندما ننتقد الحركة الإسلامية، فلا يعني هذا أنه تنقيص وقدح لها، فمادامت الحركة الإسلامية مشروعا إصلاحيا فلابد من تجديد المنهج الحركي وتصحيحه حتى يواكب كل المستجدات التي تعرفها الأمة ولا يصطدم بالتيار الحداثي، فالوقت الراهن يفرض عليها أن تتجاوز الخلافات السياسية والفكرية، لأن الأمر يستدعي من الأمة أن تتشبع بروح الوعي الجمعي، وأن ننتقل (من الحركة إلى الدعوة)، فالشيخ فريد الأنصاري دعى في كتابه الفطرية إلى العودة بالعمل الإسلامي إلى فطرته الأصلية يقول رحمه الله: وإنما فطرة العمل الإسلامي أنه دعوة، لا حركة. وبين هذا وذاك فرق كبير، فمصطلح الدعوة لفظ قرآني أصيل، ومصطلح الحركة لفظ سياسي دخيل… إذن فالأمة في حاجة إلى إلى تجديد منهجها الدعوي والانتقال من العصبية الحركية إلى تأميم الدعوة، لأن ضرورة الإصلاح تقتضي ذلك، وأن نتجاوز الانتماءات التنظيمية التي شوهت الدعوة الإسلامية، يقول فريد الأنصاري رحمه الله: ونحسب أن مصطلح الدعوة قد ناله من التحريف المفهومي والتجزيء الدلالي، ما جعله مقصورا لدى كثير من المستعملين اليوم، في الحقل الإسلامي الإصلاحي، على معنى الوعظ بمفهومه الخطابي … الفطرية ص 23. المحور الثالث: الأولويات والمقاصد في المشاريع الاصلاحية: من المفاهيم المهمة في تراثنا الإسلامي ما يعرف بفقه الأولويات أو مراتب الأعمال، وهو وضع الشيء حسب مرتبته في الموضع الذي يستحقه بالعدل، وهكذا كان منهج الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانوا شديدي الحرص على معرفة الراجح والمرجوح، وأي الأعمال أفضل، وهذا هو المنهج السليم للنهوض بالأمة من وحل التخلف، فما دامت الأمة لا تهتم بفقه الأولويات في صياغة المشاريع و معالجة قضاياها، فإن الحال سيبقى على حاله من التبعية للغرب، وغياب الاستقلال الذاتي في اتخاذ القرارات. فأولى الأولويات هو إخلاص النية لله عز وجل في القول والعمل، ورد الاعتبار للوعي الجمعي للأمة لأن الواقع يفرض عليها أن تتجاوز كل الخلافات السياسية، لننظر كيف يجتمع الغرب ويتحد في اختراق جسد هذه الأمة التي تتفق في وحدة المعبود ووحدة اللغة والهوية الحضارية. ومن مراتب الأعمال أيضا أن تهتم بالبحث العلمي، فلا يعقل أن تكون الأمة مخاطبة بالوحي (إقرأ) وتجد أعلى نسب الأمية فيها، فبالتعليم نبني الحضارة التي تسود على كل الشعوب، فإذا نظرنا إلى المتقدمين وجدناهم عاشوا العزة والكرامة بسبب حرصهم على العلم والتعلم والتحلي بالأخلاق الحسنة، فإذا اهتمت الأمة بالجانب العلمي فإنه سوف ينعكس على باقي الجوانب الأخري إيجابا، والدليل على هذا الغرب فقد اهتم بالتعليم ونجح اقتصاديا، وسياسيا، وعلميا، وتحكم في العالم العربي والإسلامي. خلاصات: ويبقى الأمل معقودا على النخبة المثقفة لتوعية الناس بخطورة المرحلة، لأن الحرب اليوم حرب حضارية، تستدعي من كل مفكري الأمة أن يحققوا الإجماع على مشروع واحد لخدمة قضاياها ، فكلما تفرق شملها ضعفت قوتها وأهينت كرامتها وسهلت على عدوها. وأمام هذا الفساد الذي تعرفه مختلف المجالات الحيوية في جميع الأقطار العربية الإسلامية، فلا بد أن تكون هناك مداخل للإصلاح على الشكل التالي: الإهتمام بشباب الأمة فهم سر تقدمها، ومن يدرس السيرة النبوية يجد أن الشباب هم من حملوا مشعل الإسلام. الإهتمام بالإصلاح الديني كمدخل منهجي لباقي المجالات الأخرى، كما ذهب إلى ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب، اتخذ من التوحيد والسنة منطلقا لعملية الإصلاح السياسي، والثقافي، والاقتصادي، والاجتماعي… الإصلاح ينبغي أن يراعي المقاصد الكبرى وتحكيم الشريعة من أجل إقامة الدين في النفوس ثم على مستوى الأمة، وأن تكون الوسائل الإجرائية في الإصلاح متفقة مع الغايات المقصدية للإسلام. الإصلاح ينبغي أن يشارك فيه الجميع، وتربية المجتمع على الفضيلة مهمة الجميع. المدخل السياسي ليس غاية في الإصلاح، وإنما وسيلة لممارسة التغيير، من جلب للمصالح ودرء للمفاسد. والله تعالى أسأل أن يوفق قادة الأمة الإسلامية لخدمة البلاد والعباد.