منذ سنتين أو ثلاثة من عمر الطفل محمد فقد والدته، وحين يذكر الأمر تغرورق عيناه بالدموع، مشيرا إلى أن لليتم مرارة ووقعا كبيرين في النفوس، خاصة إذا كان اليتم من الأم، يقول محمد إن أي حديث عن اليتم لا يستوفيه كلام أو وقت أو مكان. ونظرا لحرص الأب الشريف على تحفيظ محمد القرآن، كان يلزمه بمصاحبة الفقيه، وكلما ابتعد الفقيه عن الدوار لأسباب ما، اضطر الأب ليأخذ ابنه وراءه على البهيمة للذهاب إلى الكتاب قبل طلوع الشمس.وكان كل من يأتي متأخرا يعرض نفسه للضرب. قراءة القرآن شغل الفقيه الأول وخلال هذه الفترة (أي سنة 1957)سيلتقي الطفل محمد بالشيخ محمد التسولي رحمه الله، حيث ستبدأ مرحلة أخرى من حفظ القرآن. ويذكر محمد أن شيخه هذا، كان يتميز بالصرامة والجدية ويحرص أن يحفظ تلامذته القرآن الكريم، وهنا انتبه الأب إلى هذا الشيخ الحريص على العلم والتعليم ليلزم ابنه بملازمته، والانتقال معه أين حل وارتحل. فتمكن الطفل محمد من حفظ أربعين حزبا من القرآن الكريم، كما أنه حفظ القرآن كاملا منذ (الختمة)الأولى بإصرار من الشيخ، وفي الختمة الثانية صار الطفل يكتب ربع حزب من محفوظه الخاص بدون الحاجة إلى إملاء الفقيه، وبعدها يقوم بعرض قرابة 25 حزبا، وأكثر من عشرة أحزاب على شيخه، إذ كان هم الفقيه هو قراءة القرآن وليس له أي شغل غيره. أفراد القبيلة في خدمة الفقيه ولمساعدة الفقيه على التفرغ للقرآن الكريم يقوم أفراد من أهل القبيلة برعي ماشيته أو حرث أرضه، فلا يفكر الفقيه في شيء، فهذا يجلب الماء لأرض الفقيه لحرثها، وذاك يهتم بشأن الزرع والطحن... كما وزعوا أوقات خدمته بالتناوب، فهو صاحب الشرف الذي لا يضاهى، وهو القاضي الذي يحكم ويفصل بين الخصومات ويحرر عقود الزواج والطلاق ورسوم الملكية. حتى اشتهر بين المجتمع المثل الشعبي: الفقيه إذا لم يجد ما يفعل يذهب ليتقيد على دوار، أي يصبح قائدا على أهل الدوار. وفي ثنايا الحديث يذكر الطفل محمد شدة حرص شيخه على أن يحافظ تلامذته على ما حفظوه، وإذا ما تفلت شيء من القرآن أثناء العطلة لأحدهم ضرب المفرط في ذلك ضربا مبرحا، كما كان الوالدان يؤيدان الفقيه في كل ما يفعل، ولا يباليان بالجروح الناتجة عن عملية الضرب، وربما أتى الوالد يوما إلى الفقيه وقال له: لا تخش إذا ضربته فمات، ولكن إذا مات فغطه في المسجد حتى يحل الليل وندفنه نحن الاثنان، دون ان يسمع بذلك أحد. ويزداد خوف الطفل عندما يسمع شبيه عبارات الكلام من أبيه، خاصة عندما يخاطبه:سأقتلك من أجل القرآن. بين المنهج الجديد والمنهج القديم ويحلل محمد الشيخ هذه الطريقة في التدريس والتجاوزات المصاحبة لها، مقرا بوجود سلبيات وإيجابيات فيها، ويقول:المناهج التربوية الحديثة تخلت عن أسلوب الضرب وهذا خطأ، فالطفل يعد من السفهاء، أي أنه عقله ما زال غير رشيد، فتكون الصرامة علاجا لانضباطه وانقياده، أما في المناهج الحديثة، فعندما يشعر التلميذ أن الضرب ممنوع، لا نجد له أدبا مع معلمه، ولا احتراما للعلم، ولا تجد له رغبة في التعلم، فقد أخذنا هذه المناهج بعلاتها دون فحص ما ينفع ودفع ما يضر. ويسجل الشيخ محمد الأستاذ منتقدا للتطرف في الأمرين أو المنهجين، داعيا إلى تلمس الوسطية.ويذكر أن الفقيه في القديم كان خبيرا بنفسيات تلامذته، فلكل تلميذ علاجه، فبعض التلاميذ يصلح لهم التهديد بدل الضرب، وبعضهم يحتاج إلى الترغيب والبعض لا يحتاج إلى أي من الأسلوبين فهو سلس طيع. ويضيف: إن إبعاد منهج الضرب كلية أفرز لامبالاة المعلم والتلميذ في مسألة التعليم، فتلاشت التربية المتوازنة. ويدل على ذلك إحساس التلميذ وفق المنهج التقليدي أن الفقيه هو بمثابة أب، فتربط له علاقة أبوة وبنوة بتلامذته، وكثيرا ما اصطحب لهم بهدايا معه من السوق من حلوى أو استدعاهم لغذاء جماعي، فهو أحيانا يقسو، وأحيانا يلين. وكان التلاميذ يرقبون ابتسامة الفقيه، فإذا ابتسم فرح التلاميذ، لأن ذلك إشارة إلى عدم غضبه. كما كانوا يحبون إكرام الفقيه، ويتفاخرون باستدعائه إلى العشاء أو الغذاء بمنزلهم. وعندما ابتعد انتقل الشيخ محمد التسولي (من قبيلة تسول بنواحي فاس)، عوضه الشيخ علي الشياظمي، ويذكر الطفل أن هذا الفقيه يمتاز بقراءته الجيدة وخطه البارع، فأتم بمعيته حفظ العشرين حزبا المتبقية. ويلفت الفقيه محمد السحابي إلى أن من حرص أستاذه محمد التسولي أنه كلما اغتم من تفلت القرآن من أحد تلاميذه بعد عطلة، اشتط غضبا وصار يضرب رأسه بكلتا بيديه، لتفريط تلميذه فيما حفظ، وإذا وصل الحال إلى هذه الوضعية، فالنهار بالنسبة للتلميذ أسود، يقول محمد. ويذكر أن شدة خوفه من شيخه تدفعه أحيانا إلىالتمارضوليس به مرض، لألا يذهب إلى الكتاب، لأنه نسي جزءا من القرآن، ولا ينفي ملازمة الاستحياء من الفقيه دائما. وفي بعض الأيام، كان محمد يستعرض على شيخه الآية:(بئس الرفد المرفود) من سورةهود، فقرأها بتفخيم الراء الأولى وترقيق الثانية، فغضب الشيخ التسولي وبدأ يضرب محمدا دون أن يتوفق هذا الأخير في نطقها سليمة، وامتد الضرب من وقت العصر إلى المغرب، وهنا تعلو ابتسامة الشيخ محمد السحابي، وتهتز لحيته الكثة، إذ لم يعرف ما هو المطلوب منه حتى أغمي عليه. يتبع