رغم أن دستور الأدوية الذي صدر منذ القرن الثامن عشر في أحد الدول الغربية وهي اسكتلندا ينص على أن الدواء الجيد، والذي يعطى بعناية، يبشر بالصحة، وأن الدواء الفاسد أو رديء التركيب يكون سببا لمزيد من الأذى والآلام للمرضى ،إلا أن الأدوية الفاسدة تبقى تجارة رابحة في الدول الغربية، تستفيد منها مافيا منظمة ويقع ضحيتها شعوب مستضعفة لم تقدر بعد على إنتاج دوائها وقبله غذائها ،كل ذلك تؤكده التقارير اليومية لمنظمات الحصة وتحقيقات الصحفيين عبر العالم،". يضاف إلى ذلك ظهور الشركات الكبرى العابرة للقارات، وامتناع الدول الغربية السماح للدول الفقيرة بتصنيع أدوية مماثلة من أجل مواجهة طوارئها الصحية، مما يتسبب في احتكار الأسواق،ومن تم تسويق منتجات بأسعار مرتفعة وأخرى لا يعرف بالضبط مدى صلاحيتها للبشر. دواء فاسد ..حظ المريض الفقير إنها سلسلة مترابطة من الأنانية والعجرفة يعيشها العالم الغربي، فإذا أصبح الفرد في ميدان الأسرة يتملص من مسؤوليات زائدة كتربية الأبناء أو العناية بالشيوخ في سبيل تحقيق مزيد من المال وتلبية غرائزه الشهوانية ،فإننا نجد الأمر أفظع في إطار المؤسسات والهيئات وأحيانا على مستوى الدول، التي تسعى بكل ما في جهدها الحفاظ على السبق في مضمار التقدم العلمي والتكنولوجي المادي ، لا يهمها أن تدوس على كرامة إنسان الدول النامية ولا أن تلقي به في غيابات الفقر والمرض والجوع ،والأمثلة كثيرة لعل أبرزها ما يلاحظ في الميدان الصحي حيث تلعب تجارة الأدوية التي تكون إما غالية أو فاسدة دورا هاما في استنزاف خيرات الشعوب النامية بدعاوى متعددة ،وقد نبه إلى ذلك بعض المراقبين الذين أكدوا أن الأدوية المزيفة والرديئة الجودة المستوردة من الغرب تنتشر بكثرة في البلدان النامية وتودي بحياة العديد من المرضى الأبرياء ، وتبين من تحاليل أجريت على أدوية لعلاج الملاريا والسل وبعض المضادات الحيوية، أن العديد منها مزيف بينما تعرضت أدوية أخرى للتلف لأنه جرى تخزينها في ظروف غير ملائمة،وأدت الى مقتل العديد من المصابين الذين كانت نجاتهم ممكنة لو تناولوا أدوية حقيقية. وتقدر المنظمات الطبية الدولية حجم الأدوية المزيفة في أسواق العالم بنحو 5-10% من حجم سوق الدواء العالمي أي ما يساوي 16-48 مليار دولار من مجموع قيمته التي تبلغ أكثر من 300 مليار دولار سنويا. ويقف وراء هذه التجارة المربحة بارونات المخدرات في مختلف بلدان العالم، وهم يمتلكون عددا لا بأس به من المصانع الكبرى في الغرب حيث تقليد العبوات والتركيبات والعلامات التجارية والتي يصعب على العامة، بل وعلى بعض الصيادلة التفريق بين الأدوية الحقيقية والأدوية المزيفة، ففي عام 1996 قتلت أدوية مغشوشة 89 طفلا من هاييتي، واكتشف المحققون أن الشركة التي صدرت الدواء صينية ولكنها باعت الشحنة لشركة ألمانية والتي باعتها بدورها لشركة هولندية ثم لشركة ألمانية أخرى ثم بيعت لشركة في روتردام وبعد شهرين من تخزينها كجزء من خطة التهريب تم شحنها إلى هاييتي، والغريب أن هيئة التحقيق لم تكتشف المصنع الحقيقي للدواء. سادة الفقر..يحكمون العالم وأورد أن "غراهام هانكوك" مؤلف كتاب "سادة الفقر" الذي عمل في فترة من الفترات مراسلاً لصحيفة الايكونومست الاقتصادية في شرق أفريقيا ومحرراً لجريدة "الدولي الجديد" الإنجليزية ومجلة "المرشد لأفريقيا" واحتكاكه ببعض المنظمات الدولية ووكالات الغوث والحائز على جائزة رفيعة لجهوده في مجاعة أثيوبيا 84/1985م وهو الكتاب الأول الذي يعرض لحقائق صناعة المساعدات الطبية والإغاثة التي كانت تصرف ما لا يقل عن 60 مليار دولار سنوياً من البلدان الغنية الى الفقيرة. ولخص تجاوزات المنظمات في 5 محاور: بدءا من توزيع الأدوية والأطعمة الفاسدة، ومرورا بالفساد الإداري والمالي وقصص استغلال الضرائب،وانتهاء باستغلال الإغاثة في تغيير الدين والثقافة. ويذكر كتاب "سادة الفقر" هذا أن الغذاء والدواء المقدمين من المجموعة الأوربية كهدية عادة ما تصحبه كثير من والشكاوى من المنتفعين وأصبح العديد من العقلاء يقولون إنه من غير المقبول تماماً أن نقوم بتصدير غذاء لا نأكله نحن أنفسنا أو نعطي دواء لا نداوي به مرضانا.وقال الكاتب إنه في عام 1988م أجبرت مجموعة من الدول الأفريقية المسحوقة لرفض أغذية من المجموعة الأوربية ثبت تلوثها تلوثاً خطيراً في حين قال "لاري سايمون" المسؤول عن أوكسفام - أمريكا "في أوقات الكارثة تتدحرج إلينا كل أنواع القاذورات" حيث قامت إحدى المنظمات التطوعية الأمريكية الخاصة - الغذاء للجوعى - بشحن 19 طناً من الأدوية والأغذية المنقذة للحياة الى كمبوديا إبان المجاعة الكبرى 79-1980م فكان الغذاء قديماً وانتهت فعالية الأدوية قبل 15 سنة!. قامت منظمات الإغاثة بشحن 800 حقيبة من أغذية الأطفال الفاسدة الى معسكرات اللاجئين في هندوراس كما شحنت 15 ألف طن من الأغذية الأوربية الى مناطق موزمبيق المتأثرة بالمجاعة في أفريقيا وبعد وصول الشحنة وجدت أنها قديمة ومليئة بالحبوب المكسرة والأوساخ والطين وغير صالحة للاستهلاك وشحنة أخرى من الذرة الشامية 26 ألف طن أرسلت كمساعدة الى النيجر تبين بعد فحصها أنها لا يمكن أن تكون مقبولة حتى لغذاء الحيوانات. هدايا مسمومة.. ويضيف كراهام أنه في عام 1982م رفضت جيبوتي التي ضربها الجفاف شحنة إغاثة من السوق الأوربية 974 ألف طن التي كانت مصممة على فرض شحنتها الغذائية على الأفريقيين الجائعين بأية طريقة في حين قبلتها زائير بعد عامين أي في عام 1984م. في عام 1983م أوقف المغرب استخدام 240 طناً من الشحوم لصناعة الصابون تبين أنها تحتوي على أربعة أضعاف لأعلى معدل جرثومي مسموح به وفي نفس العام أتلفت تونس 354 طناً من زيوت شحوم أخرى أكثر خطورة لاحتوائها على نسبة عالية من البر وكسيد ولتلوثها بالديدان. في التسعينات وصلت الى البوسنة و الهرسك خلال الحرب الطاحنة مساعدات دوائية وطبية يعود تاريخ تصنيعها الى الحرب العالمية الثانية وتؤكد منظمة أطباء بلا حدود أن 60% من الأدوية التي وصلت البوسنة والهرسك خلال سنوات الحرب الأخيرة لم تكن صالحة وحسب بيانات المنظمة فإن +17؛ ألف طن منها لم تكن صالحة أو موافقة للمعايير العالمية وأن المتبرعين بها ربحوا 25 مليون دولار هي نفقات التخلص منها في بلادهم. في حين بلغت كلفة إتلاف المساعدات الدوائية غير الصالحة التي وصلت للبوسنة والهرسك خلال أعوام الحرب 92- 1996م حوالي 34 مليون دولار بينما قيمتها في الكشوفات الرسمية 17 مليون دولار حسب تقديرات منظمة أطباء بلا حدود. في ربيع 1999م تبرعت منظمة "مشروع الأمل" الأمريكية لمتضرري حرب كوسوفا بأدوية قيمتها المعلنة مليون ونصف المليون دولار وعند فتح الصناديق اكتشفت فرق الإغاثة أنها لم تكن أكثر من مواد تجميل وأقراص لتخفيف آلام الرأس وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن نصف الأدوية التي وصلت لمتضرري حرب كوسوفا على هيئة مساعدات لم تكن صالحة بعد انتهاء مدة صلاحيتها. وفي عام 2002م أرسلت الولاياتالمتحدةالأمريكية عن طريق برنامج الغذاء العالمي التابع لهيئة الأممالمتحدة 12 ألف طن من الذرة المعدلة وراثياً الى زامبيا للتخفيف من آثار المجاعة وعندما اكتشفت الحكومة إلزامية ذلك رفضت هذه المساعدات وقال الرئيس الزامبي: "يُفضّل أن يجوع الزامبيون ولا يأكلوا أطعمة معدلة وراثياً". أبارتايد في عالم الصحة كتب الصحفي الأمريكي جيمس لوفُ في لوموند ديبولماتيك الفرنسية مقالا تحت عنوان "لا دواء لدول الفقيرة:أوروبا وأمريكا تمدد فترة الأبارتايد"، يكشف فيه على أن السيدا تجرف حوالي 8000 إنسان كل يوم، لكن من يستطيع رفع الحصار الطبي التي تفرضه الدول الغنية من أجل الوصول إلى العلاج؟ ويضيف أنه شهرا بعد شهر، ينتشر الوباء بقوة ، ومعدل الأمل في الحياة يتناقص والآلام تزداد ،وتبقى الدول الغربية متحكمة في الدواء ولا توصله إلى الدول الفقيرة.ولم تستحيي أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي من أن يشنوا حربا عشواء على الدول الفقيرة بعد الوعود التي أطلقتها المنظمة العالمية للتجارة المنعقدة في الدوحة سنة نوفمبر 2001، حيث لاح بعض الأمل في إعطاء رخص للدول الفقيرة من أجل تصنيع أدوية مماثلة"عينية" لتلك التي تصنعها شركات كبرى، لكن كل ذلك الأمل ضاع بعد أربعة عشر شهرا من المفاوضات، ولم تسمح إلا ببعض الأدوية ذات المردودية الضعيفة أو قليلة الأهمية ،كل ذلك مع حصر ضيق للائحة الدول المسموح لها بتصنيع هذه الأدوية، وخلق مجموعة من الضغوط التشريعية والشروط التعجيزية التي ستكون معقدة ومرتفعة الثمن من أجل تفعيلها والحصول على رخص لصناعة هذه الأدوية بثمن أقل.لكن شعاع الأمل الضعيف الذي لاح في الدوحة طمسته الدول الغربية الغنية بعد ذلك في جنيف بسويسرا وأخلفت كل تلك الوعود ،وقد تطلب الأمر من 39 شركة أدوية غربية أن ترفع قضية أمام لجنة المنافسةضد شركات جنوب إفريقيا من أجل سحب رخص تصنيع أدوية،والتي تحاول التشجيع للاستعاضة عن الأدوية التي تحمل "ماركة مسجلة" بالأدوية العينية.وأصبح الأمر مخجلا عندما تناقلت وسائل الإعلام الإلاف من الناس في جنوب أفريقيا الحاملين لفيروس السيدا يتضورون ألما في انتظار الرحيل إلى الدار الآخرة ، هذا في الوقت الذي لم تخجل الولاياتالمتحدة كذلك من أن تتدخل لدى المنظمة العالمية للتجارة لسحب رخص مماثلة في البرازيل لتصنيع أدوية مماثلة.وهذه شهادة حية من جنوب إفريقيا تبين فظاعة احتكار الأغنياء لعالم الأدوية ،ففي أحياء المحرومين حيث يعم الارتباك، الفتاة الشابة غاندي تنهض بعمل اجتماعي، فهي تصعّد في تلال "شاكس" سعياً وراء مرضى السيدا الذين يتخفون في الأرض للموت بعيداً عن الأنظار.وتؤكد "ما إن تقول انك تحمل الفيروس حتى يعاملك الناس كأقل من حيوان، فلا يمكنك الخروج من المنزل ولا المشي في الشوارع، والكثيرون ينتحرون، وآخرون يعتقدون أن مرض السكري هو سبب هزالهم". وتضيف غاندي شارحة: "إن ما يقتلنا هو الفكر المادي.فنحن الفتيات، نحب الصبيان الذين يملكون سيارات. وهكذا يرمينا الفقر في فيروس فقدان المناعة المكتسبة. ففي المنزل لا نملك شيئاً وإذا بهذا الفتى أو ذاك يصل مليء اليدين...". تجاهل واستخفاف.. وتبقى الدول النامية المثقلة بالديون تخصص موارد هزيلة من أجل سلامة أفرادها ،فكل فلس تقتصده في مجال العلاج والتلقيحات والتحاليل لصالح القضاء على الأمراض التي تصيب العامة، هو فلس يذهب في شراء أدوية وأدوية غالية الثمن،وتذهب الفرصة معه لصيانة أو بناء البنيات التحتية وتوظيف أطباء وممرضين جدد. ولاح الأمل في اتفاق الدوحة الذي وضعه من لهم حسن نية من أجل رفع أهم الحواجز التشريعية التي تحظر على الدول الفقيرة التنظيم من أجل تشجيع صناعة الأدوية والوصول إلى العلاج بأقل تكلفة.رغم أن هذه الاتفاقية لا تشمل داء السل والسكري والربو وأمراض القلب وغيرها من الأمراض المزمنة ، كل ذلك يعني أن المشاورات التي وضعت الدول الفقيرة في موقف صعب وأليم وقاس:إما أن تقبل باتفاق معقد ومعيب، ولا يمكن تطبيقه إلا تحت قبضة الدول الغنية، إما أن تبقى أياديها فارغة، وبات من المؤكد أن أغلب الوفيات الناتجة عن السرطان سترتفع في الدول النامية وسيبقى حوالي 80مليون شخص دون طريق للوصول للعلاج ،وفي الأمراض غير المميتة يبقى الآلام تعصر قلوب وجيوب الفقراء . والواقع أن هؤلاء الأغنياء الذين فقدوا الحس بالشعور الإنساني وأعمتهم المادية المقيتة إنما يدافعون عن وجهة نظر في إطار الهيكلة القائمة للاقتصاد العالمي الذي تهيمن عليه نزعة الربح والاستحواذ والرغبة الشديدة في المزيد من الامتلاك وتكوين الاحتياطيات الاقتصادية والمالية، ويدافعون عن واقع قائم من المصالح المعروفة،دون النظر إلى واقع الإنسانية ككل. المصادر: لوموند ديبلوماتيك كتاب: سادة الفقر ل:"غراهام هانكوك" عبد الغني بلوط