يتدفق نحو الغرب الأوروبي طوفان لا حد له من اللاجئين العرب سوريين وعراقيين من هذه البلاد التي كانت تسمى (بلاد الرافدين) و(الهلال الخصيب)، بلاد الأمويين والعباسيين والتاريخ الذي يمثل سقف الحضارة العربية والإسلامية، في منعطف خطير ينذر بتغيير جوهري في المنطقة لا يدع فيها حجرا على حجر. الشعوب العربية والإسلامية تقف شبه عاجزة عن إدراك ما يحصل فضلا عن أن يكون لها القدرة المؤثرة في تغيير مساره أو التحكم في نتائجه، وأما الأنظمة فلها حساباتها الخاصة والمعقدة والبعيدة كل البعد عن دائرة الحدث. النخب المثقفة على اختلاف توجهاتها لا تملك سوى التعبير عن آلامها العميقة واحتجاجاتها الغاضبة بوجه الهوان والضعف والذلة والقهر، لكنها رسائل بلا عنوان، وشكاوى ضد مجاهيل، فالمسؤولية أكبر من أن يتحملها (حاكم) أو (محكوم) في ظل حالة الضعف العام والأخطاء المتراكمة لأجيال متعاقبة في كل مجالات الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية وحتى الاجتماعية. قبل سنوات فقط كان (حزب الله) يمثل عنوانا للمقاومة حتى في نظر هؤلاء المثقفين! وكان يحظى بالدعم المادي والمعنوي من مختلف الفئات والجماعات وربما حتى من هؤلاء اللاجئين، كانوا يحملون راياته وصوره، وكانت أموال (الزكاة) والتبرعات تتدفق عليه من كل حدب وصوب، وكان (دعاة) معروفون على مستويات عالية يحثون الناس على الجهاد معه ودعمه بآلاف (المجاهدين)! التمجيد كان أيضا بالخميني والخامنئي وأحمدي نجاد على كثير من المنابر، وتخطه أقلام إسلامية وقومية ووطنية، لا فرق، فلكل تبريراته ومسوغاته، حتى صرح أحد شيوخنا الأفاضل -سامحه الله- أن مجددي الإسلام في هذا العصر هم حسن البنا والمودودي والخميني! إن حزب الله لم ينقلب أبدا، ومشروع الخميني لم ينحرف عن مساره، نحن الذين لم نكن نحسن القراءة ولا الكتابة، وقد كانت العواطف والشعارات وردود الأفعال الآنية تحركنا أكثر بكثير من الوعي العميق والتفكير الدقيق. لقد كنا نقول للناس ما نتمناه، لا ما نعلمه ونراه، وكثير من الناس كانوا يصدقوننا لأننا لم نتلوث بالتزلف للأنظمة، ولا الدوران في فلكها، هذا الكلام سمعته بنفسي من إخواننا في إندونيسيا والهند وغيرهما من بلاد المسلمين، لقد كنت أعجز عن إقناعهم بالحقيقة لأنهم سمعوا من قامات كبيرة في العلم والدعوة غير هذا الكلام، أما اللعب وخداع هذه الجماهير باسم القضية الفلسطينية فهذا باب آخر أعمق جرحا وأشد إيلاما. إن حزب الله هو مليشيا من مليشيات (الولي الفقيه) لا يختلف عن (أبوعزرائيل) في العراق، و(الحوثي) في اليمن، وحسن نصر الله لا يخفي هذه الحقيقة ولا ينكرها، بل هناك خطابات مسجلة له قبل أن يشيب عارضاه أنه جندي في الثكنة المتقدمة للمشروع الإيراني، والذين كانوا يمجدونه ويدعمونه من بني جلدتنا كانوا على علم بهذا، لكنهم يغضون الطرف من أجل (المصلحة)! فهل وعى علماؤنا ودعاتنا وقادة الرأي فينا أن تمجيدهم بالخميني و(ثورته) وحسن نصر الله و(مقاومته) كان أشد ضررا على الأمة من تمجيد (وعاظ السلاطين) بسلاطينهم؟ حتى صرنا اليوم نستجدي الغرب (الصليبي) لإيواء الفارين بدينهم وأعراضهم من جحيم (الثورة الإسلامية) و(المقاومة الإسلامية)! نعم إن حكوماتنا العربية والإسلامية كلها تتحمل وزرا ثقيلا من هذه المأساة، وكل بحسب موقعه ودوره وإمكانياته، خاصة فيما يتعلق بالشق السياسي والمواقف التي تتطلب تدخلا مباشرا من صاحب القرار، لكن الذي يلوم هذه الحكومات عليه أن يبدأ بنفسه، فالعالِم أو المثقف أو الداعية الذي كان يضلل الناس ويلبس الحق والباطل والعدو بالصديق لا يقل وزره عن وزر أصحاب القرار، وهكذا ينبغي أن نتحمل مسؤولياتنا المشتركة ونعترف بأخطائنا، ونقدم لأمتنا ولشعوبنا كشف حساب صريحا وصادقا بالأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الحال. أما الدول الغربية فهي لا شك ضالعة من الأصل في صناعة هذه المأساة وإدامتها وإطالة عمرها، خاصة الدول الفاعلة كأميركا وروسيا وبريطانيا وفرنسا، ومن هذا الباب نستطيع أن نحملهم كل آلامنا وأوجاعنا ودماء أبنائنا وفلذات أكبادنا، أما الكلام عن طريقة استقبالهم وتعاملهم مع اللاجئين، فلا أدري بأي لسان نلومهم ودولنا العربية والإسلامية الممتدة من المحيط إلى المحيط والتي هي أكبر من كل الدول الأوروبية ثلاث مرات على الأقل قد ضاقت بهم ولم تهتد لحد الآن إلى أي حل يحفظ شيئا من ماء الوجه، فكيف نطلب من الأوروبيين أن يرفعوا من مستوى جاهزيتهم وأن يحسنوا من إجراءاتهم لاستقبال المزيد من أبنائنا وبناتنا؟ إن تركيا هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي فتحت كل أبوابها لهؤلاء اللاجئين، وهو موقف متقدم بكل تأكيد، وتستحق عليه كل الشكر، لكنه موقف لا يحل الأزمة، ولا يوفر أبسط مقومات الحياة، مقارنة بما يتوقعه اللاجئون من الدول الأوروبية. فاللاجئ إلى تركيا خارج نطاق المخيمات الحدودية، ليس له سكن، وليس له مصدر للرزق، بل وليس مسموحا له بالعمل إلا بحدود ضيقة جدا، وعليه أن يقدم عن كل فرد من عائلته قرابة الخمسمئة دولار سنويا للحصول على بطاقة الإقامة، ولذلك ترى ظاهرة التسول، والعمل (الأسود) بأزهد الأجور حيث يقع اللاجئون ضحايا الاستغلال من قبل بعض المقاولين وأرباب الأعمال، والقانون التركي لا يجيز للمستثمر الأجنبي فضلا عن التركي أن يعين أجنبيا في شركته إلا بعد تعيينه لخمسة من المواطنين، وحال اللاجئين في مخيماتهم ليس بأفضل من حال أقرانهم. إن تركيا بهذا الوضع قد أصبحت في الغالب بوابة للعبور نحو (مضارب الأوروبيين)، بعد أن أغلقت أبوابها (مضاربُ عدنان وقحطان). إن رحلة العرب من هلالهم الخصيب إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط ليست حدثا جزئيا أو هامشيّا، وهو بمآلاته وتداعياته البعيدة قد يكون أخطر من الكارثة نفسها التي تحل في هذه البلاد. إن مما يثير الريبة في القرارات الأوروبية السريعة لاستيعاب اللاجئين هو الصعود المفاجئ للخطاب الإنساني الرحيم بعد سنوات طويلة من اللامبالاة وقلة الاهتمام بمعالجة أصل المشكلة لحد هذه اللحظة، حتى تشكلت صورة لدى المثقف العربي أن اليد التي تصنع المشكلة في بلادنا قد تكون هي اليد نفسها التي تستقبل أولئك اللاجئين في تلك البلاد! أما الموقف العربي والإسلامي فيبدو أنه قد فقد القدرة على المستويين، فلا هو قادر على حل المشكلة في أرضها ومهدها، ولا هو قادر على ملاحقة آثارها ونتائجها. إن خروج السنّة العرب من هذه المنطقة الممتدة من الموصل والأنبار شرقا إلى حلب ودمشق غربا سيترك فراغا كبيرا لا ندري بالضبط من الذي سيملؤه! لكنه على كل الاحتمالات لن يكون صديقا للمنطقة ولا عنصر استقرار فيها. إن هذه المنطقة الاستراتيجية على مستوى العالم تتعرّض اليوم للحرق والحرث وكأنها تُعد إعدادا جدّيا لزراعة كيان جديد، وليس مجرد تغيير في الخارطة السياسية، إننا هنا لا نتكلّم عن فيدراليات أو دويلات، بل نتكلم عن تغيير جوهري على كل المستويات بما فيها (الإنسان) الذي استقرّ على هذه الأرض وأسّس عليها أولى حضاراته التاريخية! لو أخذنا مثلا مدينة مثل الفلوجة فإن بعض الإحصاءات أوصلت عدد النازحين منها الآن قرابة %80، بمعنى أننا نتكلم عن مدينة أشباح قد خلت أغلب بيوتها من ساكنيها، وربما لو كانت الأبواب مفتوحة للهجرة لما بقي فيها أحد، وبكل تأكيد أن المدن السورية قد تعرّضت لنزوح أكبر وتدمير أشد، فماذا يعني هذا؟ وما هي نتائجه المتوقعة؟ وهل كان كل هذا بمعزل عن الإرادة (الدولية)؟ إن مخيمات اللجوء في تركيا والأردن ولبنان مهما كانت قسوتها فإنها تحتفظ بآمال العودة إلى (تراب الوطن)، أما العابرون إلى أوروبا فأغلب الظن أن هذه الآمال ستتلاشى عندهم بعد حصولهم على (الجنسية الأوروبية)، وربما بمجرد الحصول على كارت الإقامة الدائمية، خاصة مع وجود حالة نفسية احتجاجية على الواقع المر الذي أخرجهم من بلادهم وعلى موقف الأمة كلها من هذا الواقع. حقيقة أننا لا ندري ما الذي يدور في أذهان (القادة العرب) لمواجهة مثل هذه الاحتمالات الكارثية بكل أبعادها ونتائجها، وحتى بالنسبة لتركيا صاحبة الموقف المتقدم نسبيا قياسا بالمواقف العربية، وهي لا شك معنية بأي تغيّر من هذا النوع ولو على سبيل الاحتمال. ما الذي يمكن أن نقدمه؟ هذا هو السؤال العملي الذي يشغل بال الكثيرين من الغيارى والمخلصين، وهو السؤال الذي ينبغي أن تدور حوله الجهود بعيدا عن النواح والبكائيات التي لا تزيد الطين إلا بلّة. إن المحطة الأهم التي يمكن أن نجد فيها بعض الأجوبة العملية القابلة للتطبيق والقياس هي المحطة الوسط بين نقطة الانطلاق (الوطن الأم) ونقطة الوصول (أوروبا)، لأن منع الهجرة أو حسم أسبابها أمر خارج عن إمكاناتنا، أما إذا وصل المهاجر إلى هناك فإن الرغبة بالاستقرار والتجنّس ستكون أكبر بكثير من أمنياتنا ومجادلاتنا. إن منطقة العبور الأهم هي تركيا ثم كردستان العراق، وهاتان المنطقتان قد وفّرتا العبور الآمن والتواجد المقنّن دون عقبات أو تبعات، لكنهما غير قادرتين لحدّ الآن على توفير مستلزمات العيش لهؤلاء النازحين، ولا توجد حتى فرصة للبحث عن عمل للقادرين منهم على العمل، فيكون اعتماد اللاجئ على ما أحضره معه من مال أو متاع، وهذا هو الدافع الأهم للعبور نحو أوروبا التي يتوقّع منها أن تسدّ كل هذه الضرورات مع تأمين مريح لمستقبلهم ومستقبل أولادهم. لقد قابلت عددا من الشباب الذين تمكنوا من عبور الحدود السورية التركية بطرق أقرب إلى المجازفة والمغامرة، فلما وصلوا إلى تركيا شعروا بالضياع، وكأنّ هناك من خدعهم فلا مأوى ولا سكن ولا طعام ولا شراب ولا فرصة عمل، وأصبحوا عالقين دون حل، وهم يجزمون أنهم ما فكروا أبداً بالهجرة إلى أوروبا إلا بعد أن وقعوا في هذا المأزق! إن الفكرة الجوهرية في الموضوع أنه إذا كانت دولة مثل تركيا قد فتحت أبوابها لاستقبال اللاجئين من السوريين والعراقيين، فإن السعودية ودول الخليج قادرة لا شك أن تعمل على توفير قدر من مستلزمات الاستقرار النسبي لهؤلاء اللاجئين عبر دعم مؤسسات المجتمع المدني ذات الأنشطة المتنوعة خاصة تلك المتعلقة بالتربية والتنمية الذاتية وسدّ الحاجات الأساسية. في لقاء مع مؤسسة خيرية عراقية مهتمة بشؤون اللاجئين عرفت منهم أنهم تمكنوا من استيعاب نحو سبعة آلاف طالب في مدارسهم الخاصة استيعابا مجانيا، مع توظيف عدد مناسب من المدرسين والإداريين، وقد كانت نتائج الدراسة عندهم أفضل من المدارس الحكومية، هذا نموذج جيد وقابل للتطوير. أما الخطوة التي بادرت بها بعض دول الخليج لإنشاء مشاريع تنموية في كردستان العراق فإنها لا شك خطوة مرحّب بها من قبل قيادة الإقليم، وهي في الوقت ذاته عامل مهم لشعور اللاجئين بقدر من الاطمئنان والاستقرار، وأظن أن الحكومة التركية سترحّب أيضا بمثل هذه المشاريع، خاصة مع النهج التنموي الذي تتبعه حكومة العدالة والتنمية، ويمكن أن يكون ذلك باتفاقات رسمية تعزّز من دور اللاجئين وتشجيعهم على العمل وفق الصياغات القانونية الجديدة المنبثقة من هذه الاتفاقات.