لا مراء في أن الإرهاب فعل مدان، وسلوك مرفوض، وأمر مردود على منظريه وأصحابه، وأتباعه، ومنفذيه، بغض النظر عن زمانه ومكانه ومسبباته وأسبابه، ناهيك عن المسوغات التي قد يسوقها من يؤمن به، أو يتبناه، أو يناصره، أو ينافح عنه… فالإرهاب جريمة منكرة، والسكوت عنه جريمة نكراء، لاسيما حين يستهدف النفوس الآمنة؛ ويزهق الأرواح البريئة؛ ليسلبها حقها الطبيعي في الحياة؛ الذي وهبه الله لها، وهو كذلك حين يباغت المخالفين لنا في الملة والنحلة والمذهب والطائفة، ويروعهم لحظة سياحتهم في بلداننا العربية والإسلامية، ويضع نهاية مأساوية ومريرة لهم ولذويهم … لا أحد يقبل الإرهاب الذي تأباه الشرائع السماوية جميعها، والقوانين الوضعية التي سنها البشر عبر التاريخ بدون استثناء، لماذا ؟ لأنه سلوك ينافي الطبيعة البشرية، ويجافي الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، والسواء السيكولوجي الذي خلق الله الإنسان عليه . وإذا كانت الهجمات الإرهابية تستهدف الفضاءات السياحية عادة حيث الأجانب، والأماكن التي توجد بها القوات العمومية في بعض الدول التي تتعرض لنظير هذه العمليات، فإن المستغرب في هذه الآونة الأخيرة، هو تجرؤ الإرهابيين على دور العبادة عامة، وعلى المساجد خاصة، كما حصل في دولة الكويت خلال شهر رمضان المبارك، وكما وقع في المملكة العربية السعودية اليوم الخميس سادس غشت 2015. وهي هجمات غريبة ومستغربة، ندينها ونستنكرها بشدة، ونعتبرها من أشنع الجرائم. لم يكن لعالمنا العربي سابق عهد بها، كما أن الجميع كان يستبشعها، ويتقزز من رؤية مشاهدها الدامية، والمروعة حين تقع ببعض بؤر التوتر الطائفي مثل باكستان، لكن ما يقع اليوم والآن، في العراق وسوريا، ربما يجعل منها أحداثا متكررة ومألوفة للأسف الشديد… إن عزو الهجوم على المساجد؛ حيث يناجي المصلون العزل ربهم في خشوع وتبتل، إلى الصراع الطائفي، كانتقام السنة من الشيعة، أو الشيعة من السنة، أو إلى الحرب ضد الأجهزة الأمنية التي تعتبرها الجماعات الإرهابية قوى معادية لها، كل ذلك وغيره، لا يمكن القبول به، أو الإيمان بفحواه، كما أن أي محاولة لتعليله دينيا سيكون مصيرها الفشل الذريع …بغض النظر عن نوع الديانة، أو الطائفة، أو المذهب الفكري أو العقدي. إن المساجد لله كما أتى في كتاب الله العزيز، والذين يعمرونها هم حسب ملفوظ القرآن الكريم، (من آمن بالله وباليوم الآخر وأقام الصلاة وأتى الزكاة ولم يخش إلا الله)، فكيف يجرؤ الإرهابيون على اغتيال من ترك الدنيا وهمومها، وإغراءاتها، ولاذ بالواحد الأحد طلبا للفلاح ؟ ألا ينادي المؤذنون خمس مرات في اليوم من أعلى الصوامع: " حي على الصلاة حي على الفلاح " ؟ وهل يمكن الظفر بالأمن والأمان في مكان آخر من هذه الدنيا إذا فقدا في بيوت الله ؟ إن الأفظع و الأفدح، هو القول بكون هذه الأفعال الشنيعة، والجرائم المنكرة، والسلوكات الذميمة، يقف وراءها فكر ديني تؤمن به بعض الجماعات المنسوبة على الإسلام ظلما وبهتانا وزورا …فمتى أمرنا ديننا الحنيف بالاعتداء على الأبرياء العزل في أي مكان كانوا ؟ إذا كانت الجماعات المتطرفة تملك فهمها الخاص للدين، وتؤول مفهوم النصوص القرآنية بكيفيتها الخاصة، وتتذرع في أحيان كثيرة؛ بأن هاجسها الأكبر من وراء الاعتداء على غير المسلمين، هو محاربة الكفر ومظاهر الانحراف العقدي، فما تعليلها لقتل المصلين المسلمين في بيوت الله ؟ هل مخالفة الشيعة للسنة من حيث المذهب، ذريعة مقنعة لتفجير السنة المساجد التي يؤمها الشيعة، واعتداء الشيعة على مساجد السنة ؟ هل قتل رجال الشرطة والأمن أو الجيش في بلاد المسلمين؛ وهم يؤدون أحد أبرز ركن من أركان الإسلام وهو الصلاة، داخل بيت من بيوت الله، يجد مسوغات مقنعة له في أي ديانة سماوية؟ إننا في الحقيقة أمام فكر أعرج ومعوج ومتطرف إلى أقصى الحدود، فكر منغلق جاهل بقواعد الفقه الإسلامي الصحيحة، وأمام فهم ضيق ومنحرف لأصول الدين الإسلامي لذا، لا نستغرب إن أتى المعتنقون له، أبشع الأفعال التي لا يمكن تصنيفها إلا في خانة الجرائم المدانة دوليا … إن هؤلاء المتعطشين لدماء الأبرياء من المسلمين، ومن غيرهم من الأمم والشعوب، إذا كانوا لا يراعون حرمة النفس التي" حرم الله قتلها إلا بالحق "، لا يمكننا أن ننتظر منهم توقيرا لبيوت الله " التي لا تدعوا مع الله أحدا". إننا أمام منزلق خطير في الفهم والاعتقاد والتصور من لدن هذه الجماعات المتطرفة الشاذة، والمنحرفة…والأخطر هو أن توسوس النفوس الأمارة لأصحابها بصدق ما يعتقدون، وصواب ما يأتون من الأقوال والأفعال التي ما أنزل الله بها من سلطان… إن استراتيجية الجماعات الإرهابية اليوم، التي تستهدف دور العبادة، والمساجد في الدول العربية والإسلامية خاصة ، إنذار شديد النبرة وحاد اللهجة، يؤشر على استلاء العمى على عقول الإرهابيين وعلى قلوبهم، والذين ما عادوا يميزون بين الجائز شرعا والمنهي عنه .. لكن الداء الدوي الذي أعيا أمره في هذا الباب، هو تلك القدرة الخارقة التي استطاعت بها التنظيمات الإرهابية استقطاب شبابنا، والزج بهم في أتون سلوكات غريبة ودخيلة على عالمنا العربي والإسلامي، لذا فالمهمة الملقاة على عاتقنا اليوم جسيمة، وأقصد هنا العلماء ،والأساتذة، والمفكرين، والدعاة ، والمثقفين عموما . إن الإساءة للمساجد والتهجم على دور العبادة في ديار الإسلام وبلاد المسلمين اليوم، أخطر في نظرنا من الإساءات كافة؛ التي قد تأتينا من وراء البحار على أيدي الأجانب الذين لا تجمعنا بهم أواصر الدين والتاريخ والحضارة واللغة … إن الاعتداء على بيوت الله في أي قطر عربي أو إسلامي، هو اعتداء على أفراد الأمة كافة، ويجب في تقديرنا اعتباره هجوما على أمننا الفردي والجماعي … إن أمننا اليوم في خطر شديد، ولا يكفي مواجهته بحزم السلاح المادي، بل لا بد من بأس السلاح الفكري والعقلي، إننا مطالبون بتصحيح نظرة أبنائنا وبناتنا، وتلاميذنا وطلبتنا للتدين وللدين الإسلامي ، وذلك بتعزيز صورة الإسلام الوسطي المعتدل، ورسالته السمحة؛ التي بعث بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ما أحوجنا للنأي بعقول أفراد مجتمعاتنا عن الغلو في فقه الدين الإسلامي، وإدراك قواعده الأصولية، وعن السقوط في حمأة التطرف المذهبي والطائفي .. إن الثورة المعلوماتية والتكنولوجية اللتين أفرزتهما مجتمعات المعرفة، والشبكة العنكبوتية، قد يسرتا على شبابنا المسلم، وشاباتنا المسلمات، حرية النهل من المعارف والأفكار المتدفقة، والغزيرة، المبثوثة عبر مواقع الانترنيت، وحيث إن تلك الثروة الفكرية تعج بالغث والسمين، والصالح والطالح، فقد ساهمت بعض المواقع والمنتديات في تصريف مفاهيم شاذة عن الإسلام والعقيدة الإسلامية، وشجعت بعض المتذبذبين من أبناء أمتنا على اتباع الفهم السقيم للدين الإسلامي المعتدل، ووقعت تحت إغراءات التطرف الذي يعتبر وقود الجماعات الإٍرهابية المنغلقة على ذاتها، والتي تعتبر خطأ، كل مخالف لها في الفكر والتصور والرأي، ضالا مرتدا منحرفا عن سواء السبيل، وما الضال في الحقيقة إلا تفكير زعمائها وشيوخها … إن الجهود التي وجب أن تبذل على مستوى الشبكة العنكبوتية لا تقل أهمية عن تلك المبذولة فعلا على أرض الواقع من أجل مناهضة السلوكات غير السوية للجماعات المتطرفة …وجب مراقبة المحتوى الرقمي العربي والإسلامي المنشور على الانترنيت؛ لاسيما المتعلق بالإسلام والدعوة للجهاد … لقد حان الوقت لإشراك علماء الشريعة الإسلامية، و فقهائها في مراقبة المحتويات الرقمية المبثوثة على مواقع الشبكة العنكبوتية ومنتدياتها؛ لاسيما المرتبط منها بالدين الإسلامي، وبمفهوم الجهاد في الإسلام، لا يجب أن يترك الأمر للخبراء بالتقنية والإعلاميات، إن الموقف لا يقتضي حذف صفحات الويب، وتعطيلها فقط ، لاسيما التي تروج مفاهيم مغلوطة منحرفة وملوثة عن الإسلام، بل يلزم نشر صورة الإسلام المعتدل المتسامح من أجل تصحيح التصور الخاطئ والضال … على مؤسساتنا التعليمية والجامعية ومراكز التوجيه والإرشاد المهني أن تأخذ بيد طلبتنا ليرسموا مسيرهم المهني المستقبلي، ويخططوا مشروعهم الذاتي، وعلى الدولة أن تلتزم بتمويل تلك المشاريع وفق رؤية استراتيجية تنصب على إيلاء الشباب في دولنا العربية الأهمية القصوى في أي برامج حكومية للتنمية البشرية والاقتصادية … إن المساجد لله، يعمرها عباده المؤمنون والمؤمنات، والإساءة لها، بمثابة إعلان حرب على الله، وعلى الأمن الروحي للمواطنين والمواطنات عموما، لذا فكلنا معنيون بحمايتها والدفاع عنها ضد أي سلوكات عدوانية تستهدفها، لذا، فالهجوم على فضاءاتها، واغتيال المصلين المؤمنين الآمنين، وترويعهم وهو في عبادة من أسمى العبادات، لا يمكن عده إلا من قبيل أبشع جرائم الإرهاب التي لا تساهل مع مقترفيها .