في كل مرة يوفّق فيها المقاوم الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه و شعبه و كرامته و حريته في تسديد ضربة للعدو المحتل للوطن تنطلق ألسنة الشجب الدولية بالتنديد و الاتهام ، بينما تقف ذات الألسنة خرساء أمام ما يقوم به الصهاينة من جرائم حرب ضد الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني المغتصب وطنه ، و المدنّسة مقدساته ، و المقتلع من أرضه ، و المسلوبة حريته و كرامته . فهذا موراتينوس الذي لم يفكّر و لو لمرة واحدة عيادة أطفال المسلمين الذين يذبحون في كل صباح على يد النازية الصهيونية في فلسطين ، يعود جرحى العملية الأخيرة التي نفّذها المجاهدون في مدينة القدس ، ثم يدلي بتصريحه قائلاً : "يجب أن يقول أحد للفلسطينيين ، إنه لا يمكن الاستمرار على هذا النحو" ، فلماذا غاب عن موراتينوس أن يوجّه هذا القول للمحتل الصهيوني ، ألا يدرك موراتينوس أننا نعيش تحت الاحتلال ؟ و أننا نناضل من أجل حريتنا أم أنه العداء الصليبي الذي عشّش في قلب الغرب الحاقد ؟ . و أما المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية فيقول : "إننا ندين بشكل مطلق هذا العمل (الإرهابي) الإجرامي ، الذي يهدف إلى المساس بجهود السلام التي تبذل الآن" ، و لم يفته أن يبعث بالتعازي الحارة إلى عائلات الضحايا و سلطات الاحتلال ، باسم وزير الخارجية الفرنسي "دومينيك دي فيلبان" ، و من حقّنا أن نتساءل لماذا لم يفكر هؤلاء و لو لمرة واحدة أن يتوجّهوا بالتعازي و لو (التعازي الباردة) لضحايا الإرهاب الصهيوني ؟ و لماذا لم يتجرأ أحدهم أن يطلق على الجرائم الصهيونية ما قاله في حق المقاومة المشروعة للشعب الفلسطيني ؟ ألستم معي أنه العداء للإسلام ؟ ثم أين هو السلام الذي يتحدّثون عنه و نحن نشيّع في كل ساعة ضحية جديدة ؟!! و لم ينسَ كوفي عنان أمين عام الأممالمتحدة أن يندّد بأقسى العبارات الممكنة بالعملية الاستشهادية ، و يقول في تصريح أدلى به متحدّث باسم مكتبه "بأنه يعتقد أن مثل هذا الاعتداء يستحق العقاب كلياً ، و ليس من شأنه إلا زيادة الحقد و الريبة" ، أرأيتم كيف يفهم عنان القانون الدولي ليصبح الذي يستحق العقوبة هو المجني عليه لا الجاني ؟ أرأيتم كيف يطوّع القانون الدولي ليخدم استمرار الاحتلال و العدوان طالما أن ذلك يرضي أمريكا ؟ أرأيتم كيف يبرّئ الاحتلال و العدوان الصهيوني من زيادة الحقد و الريبة فيقصر ذلك على المقاومة المشروعة لشعبنا الفلسطيني؟. و في كوبنهاغن ، ندّد الاتحاد الأوروبي بشدة بالعملية واصفاً إياها "بالعمل الإرهابي الفظيع" معتبراً إياها "تشكّل محاولة جديدة متعمدة لضرب عملية السلام و المصالحة" ، ألم تروا أن الاتحاد الأوروبي لم يسمع عن احتلال الضفة الغربية ، و حصار الشعب الفلسطيني ، و مئات القتلى الفلسطينيين ، و عشرات الآلاف من الجرحى و المعوقين ، و عشرات الآلاف من المعتقلين ، و ملايين المشردين ، و أن صوت الجرافات رغم دويّ قعقعتها و هي تهدم البيوت و تهلك الزروع لم يصل إلى شحمة أذنيه ، و لذلك لا زال يتحدّث عن السلام و المصالحة ، فعن أي سلام يا ترى يتحدث ؟!!! . فأين هم هؤلاء المندّدون من نص القرار رقم 2649 الصادر عن الجمعية العامة بتاريخ 30 تشرين الثاني 1970م و الذي جاء فيه : "إن الجمعية العامة للأمم المتحدة لتؤكد شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية و الأجنبية و المعترف بحقّها في تقرير المصير ، لكي تستعيد ذلك الحق بأي وسيلة في متناولها .. و تعتبر أن الاستيلاء على الأراضي و الاحتفاظ بها خلافاً لحق شعب تلك الأراضي في تقرير المصير ، لا يمكن قبوله و يشكّل خرقاً فاحشاً للميثاق" ، و من نصوص القرارات العديدة من بعده و منها القرار رقم 2787 الصادر عن الجمعية العامة في دورتها رقم 26 المنعقدة بتاريخ 6 كانون أول عام 1971م حيث أكّد القرار على حق الشعب الفلسطيني في الحرية و المساواة ، و تقرير المصير ، و شرعية نضاله من أجل استرداد تلك الحقوق و التحرر من الاستعمار و التسلط و الاستعباد الأجنبي بكل وسائل النضال المتوفرة ، و كذلك مما جاء في اتفاقية الرابعة جنيف و التي أقرّت في عام 1949م ما نصه : "إن من حقّ الشعوب المحتلة أن تقاوم المستعمر الغاصب بأي وسيلة متاحة بما فيها حرب المقاومة الشعبية ، و حرب الاستنزاف ، حتى تتحرّر و تنال استقلالها" ؟!! .. أليس من حقّنا و نحن نطالع تلك النصوص أن نتساءل أين أقطاب ما يسمّى بالمجتمع الدولي من هذه النصوص التي تعطي الشعب الفلسطيني حقّ المقاومة بأي وسيلة طالما أنه يرزح تحت الاحتلال ؟ فلماذا لا يوجّه هذا المجتمع الدولي تنديده و تهديده و اتهامه بالإرهاب للذين شكّلوا بممارساتهم خرقاً فاحشاً لميثاق الأممالمتحدة ؟ ألا ترون إذاّ أنه الانحياز الأعمى لا أقول لصالح الصهاينة و لكن ضد الأمة الإسلامية و قضاياها العادلة ؟!! . و في ظلّ هذا الانحياز الفاضح يفقد التنديد و التهديد و التشهير قيمته ، بل لا أبالغ إن قلت أنه سيتحوّل من إدانة إلى شهادة تقدير ، و أستميح شاعرنا عذراً في أن أغيّر في نص بيته الشهير ليصبح : و إذا أتتك إدانتي من ظالمٍ فهي الشهادة لي بأني عادل فلا أشكّ لحظة أن الحركة الإسلامية لو حظيت بتقدير و إشادة أمريكا و الغرب و الصهاينة لأصبحت متهمة بالانحراف في نظر نفسها و نظر أنصارها ، و إنه ليكفي الحركة الإسلامية المجاهدة في فلسطين شرفاً و فخراً أن الشعوب العربية و الإسلامية تقف من خلفها تباركها و تساندها في وجه التنديد الغربي الصهيوني ، فهذه هي شهادة التقدير التي تدفع الحركة إلى مزيد من المقاومة و الجهاد ، و التي يصبح في ظلّها التنديد المعادي للإسلام كأنه لم يكن. لقد حاولت أمريكا أن تجعل من تنديدها و اتهامها للحركة الإسلامية بالإرهاب إرهاباً للحركة حتى توقف مقاومتها للاحتلال ، و ترضى صاغرة بذلّ القيد لشعبنا الفلسطيني ، و لكن أمريكا نسيت أن الحركة التي تقارع الاحتلال رغم اختلال ميزان القوة لصالحه دافعت في سبيل ذلك ثمناً باهظاً من دماء خيرة أبنائها ، و الحركة التي لم تنحنِِ أمام الدبابات و الطائرات و الصواريخ الأمريكية في يد الإرهاب الصهيوني ، و الحركة التي لا تعتمد في جهادها على الدعم المادي من أي نظام كان على وجه الأرض ، و الحركة التي تعرف غايتها و أهدافها جيداً و مستعدة للتضحية بأغلى ما تملك في سبيل تحقيقها ، و الحركة التي لا يسعى قادتها لتحقيق أهداف دنيوية ذاتية رخيصة ، و الحركة التي تعرف أصدقاءها و أعداءها جيداً، و الحركة الربانية التي تعتمد أولاً و أخيراً على الله لا يمكن لأي قوة في الأرض أن ترهبها ، أو تحرف مسيرتها ، أو تصادر قرارها المستقل، أو تكرهها على التخلي عن ثوابتها ، و من هنا فقدَ المندّدون و على رأسهم أمريكا هيبتهم ، فأصبح تنديدهم مادة خصبة للتندر و الدعابة ، و مدعاة للسخرية و الاستخفاف ، و حافزاً للتشبث بخيار المقاومة ، و سبيلاً لمزيد من الوعي الإسلامي بحقيقة ما يسمى بالمجتمع الدولي . إذاً فالخاسر الوحيد من السياسة الانتقائية المنحازة في توجيه أقسى عبارات الشجب و الاستنكار هم المندّدون أنفسهم ، الذين فقدوا مصداقيتهم فكشفوا بذلك عن حقيقة وجوههم و أهدافهم ، فأضرّوا بسمعتهم و هم الذين طالما رفعوا شعارات كاذبة من الحرية و المساواة و حقوق الإنسان ، و أما الرابح الوحيد فهو خيار المقاومة الذي يتعزّز يوماً بعد يوم ، و الذي أساء وجه الصهاينة المحتلين ، و أسقط هيبة المندّدين باسم ما يسمى بالمجتمع الدولي بقلم : الدكتور عبد العزيز الرنتيسي