"اتكأت بمرفقها على وسادة وثيرة بعد أن أدت صلاة المغرب وتلت آيات من الذكر الحكيم... وتسلل الهدوء النفسي إلى كيانها، وتهلل وجهها الوسيم بالبشر والبشاشة... بيد أنها أخذت تهمس كعادتها راجية داعية ربها أن يهدي زوجها الضال سواء السبيل، ويرشده إلى طريق الخير ونهج الهدى القويم، وكذا تفقد أحوال أفراد أسرته معتنيا بولده مهتما بابنتيه محسنا معاملة شريكة حياته... وبينما هي كذلك إذا ببابها يطرق حيث وصل إلى مسمعها صوت سائلة تريد صدقة لم تجد مانعا من أن تلبي نداء الطارقة المسكينة بصدر رحب وسعه الله سخاء كبيرا وقلبا عطوفا... مضت دقائق معدودة أعقبتها عودة زوجها الغاضب الثائر بنرفزته المعهودة يسب ويلعن الزمن الذي حدد وربط علاقته بزوجته فاطمة المرأة الصبورة الكريمة... حينها بادر بسؤالها عما إذا كانت قد منحت للسائلة شيئا ما من طعام البيت..!!؟؟ "نعم صدقة بسيطة تسد بها رمق الجوع وتطفئ بها لهيب البؤس والحرمان" كان هذا جواب فاطمة دون افتراء. "وبأي حق تتصدقين مما أملك... أنت تتلفين ثروتي وتساهمين دوما في تأخير وتضييع أرزاقي.." بهذه العبارات الواهية، والتي لا تستند على منطق سليم تصدى لها الزوج البخيل... وعبثا حاولت فاطمة أن تهدئ من فورة غضبه موضحة له أن ما قدمته من جميل إنما هو في سبيل الله ستجازى عنه غدا يوم القيامة والله لا يضيع أجر المحسنين... كلام لم يزده إلا حنقا وبعدا عن عالم البر والإحسان.. وانهال على وجهها بصفعات قوية مرددا بلسانه كلمات نابية: "اخرسي أيتها اللعينة يا زوجة النحس... لم أنعم يوما بالسعادة الزوجية معك ولم أحظ ساعة بيسر ولا غنى منذ تزوجتك يا مشؤومة..". انزوت فاطمة في ركن من أركان البيت دامعة العين منكسرة الخاطر غير مفصحة عما بذاتها الحزينة من آلام دفينة لأحد أبنائها ولسان حالها يجيب: "إنك تملك ثروة طائلة وثراء واسعا، غير أن ذلك لن يجديك نفعا مقابل جشعك وبخلك سامحك الله ". ما كان عليها إلا أن تجفف دموعها الحرى، وتكظم غيظها في داخل نفسها تفاديا لما من شأنه أن يزعج كيان أولادها، ويقض مضجعهم وينعكس على حياتهم البريئة باليأس والضيق والأسى، خصوصا وأن موعد رجوعهم من المدرسة قريب.. ليجدوها فاتحة ذراعيها مستقبلة إياهم بمحيا طلق وثغر باسم ونفس صبورة، تأبى إلا التحدي والطموح والتفاؤل بحياة جديدة مكللة بزهور الأمل ومستقبل زاهر في ظل ولديها الحبيبين وابنتيها الغاليتين... ولعل بعد المطر الجو الجميل... وحرصا منها كذلك على عدم تثبيط عزائمهم أو عرقلة سير حياتهم الدراسية.. إنها امرأة حباها الله قلبا عظيما مفعما بالحب الصادق.. تود أن تراهم يتصدرون مناصب عالية ووظائف سامية، وعملا شريفا ينسيها شقاءها ويزيل عنها آثار وبراثن تعاستها الزوجية... ويعوضهم بذلك أبا مثاليا طالما ظلوا يبحثون عن شخصه زمنا طويلا... هذا وقد كانت حنان البنت الكبرى تقرأ هذه الأماني في عيني والدتها المغلوبة على أمرها، فأخذت على نفسها أن تضاعف المجهود، وهي تلميذة بالثانوي، قائلة في صمت دون أن تنبس ببنت شفة لمن هم حولها من إخوتها الصغار: "إلهي ماذا عساني أن أفعل وفاقد الشيء لا يعطيه... كيف أجرؤ على مواجهة أبي بما يقوم به تجاه والدتي، التي كم تمنت أن يستقيم ويعي ذاته ويهتدي إلى طريق الصواب... لقد فاض الكيل ووصل النصل إلى العظام! ومهما يكن من أمر، فإن هذا الوضع المحير لا ينبغي أن يكون عائقا يحول دون تحملي كل هذه المعاناة وسلك سبل الكفاح والصمود بغية إنقاذ إسرة باتت على شفا حفرة من السقوط والدمار والضياع والحرمان من عطف الأبوة وسخائها... وكذا رد الاعتبار لأم شريفة حنونة مظلومة؟!". وتمضي الأيام آخذة بأعناق الليالي، وتمر السنون بعد عمر ليس بالهين، لتحصل حنان على الإجازة في القانون بكلية الحقوق، وقد اتبع باقي الإخوة نهجها بكل جد واجتهاد محققين بذلك أحسن النتائج. ما زالت الأم المسكينة تنتظر الخلاص من جبروت زوجها، ساعية باستمرار إلى تحذيره وإرشاده ومداراته بشتى أنواع النصح والتوجيه لكن دون جدوى.. وحدث أن أتى شهر رمضان على نهايته دون أن تنعم فاطمة بلياليه العطرة السعيدة كبقية صديقاتها، اللائي حظين بسعادة زوجية آمنة وحياة أسرية مطمئنة، وهن يستقبلن بعد صيامهن عيدا مباركا مفعما بالفرحة والسرور والانشراح والحبور... ويبزغ فجر يوم جديد... إنه يوم العيد... وأي عيد بالنسبة لفاطمة؟! لقد أنهكها التفكير وأضناها البحث عن كيفية إصلاح طبيعة تعامل زوجها معها، ومع أولاده تعاملا إنسانيا مقبولا... ويخرج الأب إلى حال سبيله غير مبال بجو العيد ولا عابئ بأفراد أسرته وهم يحتفلون بهذه المناسبة الجليلة... وبعد لحظات زمنية عاد الزوج إلى البيت، وبإحدى يديه كيسا مليئا بلحم لذيذ وبعض الفواكه الجيدة.. تلك التي طفق يلتهمها بشراهة منقطعة النظير.. أمام مرأى من زوجته، وهو في عجلة من أمره في طريقة أكله، علقت بحلقة قطعة لحم تسببت في خنقه، فأودت بحياته دون أن تمهله ولو لحظة قصيرة، اندهشت فاطمة لهذا الحدث وصاحت بأعلى صوتها: >حنان.. حنان!" هذه الأخيرة ما إن شاهدت جثة والدها هامدة حتى أغمي عليها.. وخيم الحزن على القلوب... وشيعت جنازة الفقيد يوم العيد... وانتهى كل شيء وفي نفس الزوجة حسرة شديدة وأسف بالغ كون زوجها لقي حتفه بطريقة غريبة مفاجئة غير متوقعة، وكأنها عقاب سماوي طالما حذرته منه... ياله من قدر مهول ومصير غير منتظر!... وبعد مضي ثلاثة أيام أو أكثر بقليل حضر إلى بيت الأسرة شخص يصرح بأنه كان صديقا للفقيد وهو مدين لهذا الأخير بديون مالية لم يسددها منذ شهور خلت، مبرهنا لهم على ذلك بعقد أو التزام مكتوب... اضطرت على إثره فاطمة باتفاق مع ابنتها الكبرى أن تبيع البيت الذي يملكونه رغما عن أنوفهم... وقد وعدت حنان أمها أن تعوض لها ما ضاع منها، باعتبارها تفوقت في عملها كمحامية ناجحة نالت شهرة واسعة في البلدة، التي يقطنون بها، مما خفف من وطأة الآلام التي تعصر قلب الأم الحنون، ويشعرها بنوع من الارتياح والدعة، ويجعلها تعيش حياة جديدة آمنة هائدة يسودها الهناء والاستقرار، والتي كانت بالأمس القريب في أمس الحاجة إلى معانقة فضائها والارتماء بين أحضانها مع زوجها الراحل إلا أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن". نور الدين فليس