من الكلمات المأثورة عن الملك الراحل محمد الخامس رحمه الله عند رجوعه إلى المغرب قوله الشهير: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". فهذه الكلمة الموجزة كانت تدل على وعيه العميق بأن معركة الاستقلال لا يمكن اعتبارها قد انتهت مع توقيع اتفاقية "ايكس ليبان" بل إنها معركة متواصلة إذ أن الاستقلال الحقيقي لا يكتمل إلا إذا استرجعت الأمة كامل إرادتها في جميع الميادين وحققت تنميتها وحافظت على شخصيتها الدينية والثقافية والوطنية. وبغض النظر عما قيل عن اتفاقية إيكس ليبان ومدى تحقيقها أو عدم تحقيقها للطموحات التي كانت ترفعها الحركة الوطنية، فقد كان هناك أمر أخطر من حسابات الربح والخسارة التي تمخضت عنها الاتفاقية المذكورة. فالاستعمار الفرنسي كما هو معلوم لم يكتف باحتلال الأرض ونهب الخيرات، كما أنه لم يكتف فقط بضمان استمرار نفوذه ومصالحه الاقتصادية والسياسية في الغرب بل إنه سعى إلى احتلال العقل والوجدان وبسط سيطرته على النفوس وخلق أجيال مخترقة من لدن قيمه ونظرته إلى الحياة وذلك ما صرح به رواد الحركة الوطنية ومنهم الزعيم علال الفاسي رحمه الله حينما اكتشف أن العداوة للشريعة الإسلامية لم تعد شأنا خاصا بالفرنسيين الذين عملوا على تفكيك المنظومة التشريعية الإسلامية بإنشاء المحاكم المدنية، بل إنها أصبحت شأنا يشترك فيه مغاربة يتكلمون بألسنتنا ويتسمون بأسمائنا لكنهم أصبحوا يفكرون بعقول فرنسية وتخفق قلوبهم بالولاء لفرنسا ثقافة وسياسة وتاريخا وحاضرا. واليوم نستطيع أن نقول بعد مرور أكثر من أربعة عقود على رحيل الاستعمار الفرنسي إن الذين خططوا للسياسة الثقافية الاستعمارية الفرنسية آنذاك يمكنهم لحد الساعة أن يناموا قريري الأعين. ففضلا عن استمرار التدخل الفرنسي في بصم السياسة التعليمية والثقافية والإعلامية لبلدنا من خلال اتفاقيات للتعاون الثقافي غير متكافئة ومن خلال دعمها عبر قنوات متعددة للأنشطة الثقافية الفرنكفونية في المغرب ومن ذلك مثلا دعم الإنتاج السينمائي الذي يخدم الأغراض الثقافية الفرنسية في المغرب، يمكن أن تنام فرنسا قريرة العين لأن لها قناة تخدم تلك الثقافة بتمويل من الشعب المغربي، كما أن لها عشرات المجلات والجرائد الجديدة سواء منها تلك المدعومة بطريقة غير مباشرة من خلال ما ينزل عليها من تمويل عن طريق الإعلانات التجارية بشكل سخي أو تلك التي قد لا تستفيد من ذلك الدعم والتي يعتبر أصحابها أكثر غيرة على الثقافة الفرنسية من الفرنسيين. وإذا كانت بلادنا قد اختارت مبدأ الانفتاح الإعلامي والعمل بمبدأ حرية إصدار النشرات والجرائد والمجلات وكان ذلك مكسبا لا ينبغي التراجع عنه، وكان من حق كل ناشر أن يعبر عن تصوراته وقناعاته الثقافية شرط أن لا يكون مأجورا من جهات أجنبية تهدف إلى ترسيخ تصوراتها الثقافية ورؤيتها الكونية، فإن مما لا يمكن قبوله أن تسخر قنوات يمولها الشعب المغربي لتقويض مقوماتنا الثقافية وخدمة ثقافة أخرى. ويكفي في هذا الصدد النظر فيما تبثه القناة الثانية للمغاربة في هذا الشهر الفضيل من مسلسلات تافهة مثل مسلسل "لالا فاطمة" في وقت الإفطار أي في الوقت الذي يتوجه فيه المفطرون بعد يوم كامل من الصيام وبعد صلاة المغرب إلى الله بالدعاء أن يتقبل منهم الصيام والعبادة. ويكفي أن نعرف الجهات التي تدعم إنتاجات سينمائية مثل "لحظة ظلام" كي نتأكد أن مساحات الجهاد الأكبر وواجهاته لا تزال مفتوحة بعد مضي أربعين سنة على كلمة الملك الراحل محمد الخامس رحمه الله وأنه آن الأوان لثورة جديدة في حجم ثورة الملك والشعب لإسقاط ما تبقى من رواسب الاستعمار بين ظهرانينا. كلمة أخيرة وجب التنويه بها هو أننا لسنا ضد الثقافة الفرنسية وضد اللغة الفرنسية ولكننا ضد أن تسخر لتخريب هويتنا. وأصدقاؤنا الفرنسيون متفهمون تمام الفهم لموقفنا وهم المدافعون الألداء عن قضية الاستثناء الثقافي في مواجهة العولمة الثقافية.