ما من دين قَرَنَ بين الإيمان والإحسان كما صنع الإسلام. الإيمان في التصور الإسلامي لا يقف عند حدود نورِ عقلٍ فاحص، وإشراقة قلب صاف، لكن مصبَّه الرئيس يقع في الفضاء الاجتماعي إحسانا ومسارعة في الخيرات. إن الإسلام لا يرى في الإيمان الذي لا يغري صاحبه بالإحسان، ولا ينتقل من الفكرة إلى العمل ومن الشعور إلى الإنجاز سوى إيمانٍ باهت عديم الطعم شاحب التأثير . وليس من بدع الأمرِ أن تجد نصوص القرآن وهدايات النبوة تؤكد على فاعلية الإيمان في مضمار العطاء والإحسان. خذ مثلا قوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)[البقرة: 2] تجد أنَّ الإنفاق ثمرة من ثمرات الإيمان، ومؤشر من مؤشرات نمائه واستقراره. وخذ قوله عليه السلام: «والصدقة برهان» تجد أن الإحسان إلى الناس والتصدق على فقيرهم والقيام مع محتاجهم ترجمة صادقة ودليل باهر على إيمان صاحبه. والحق أن بين الإيمان والإحسان جدلا لا ينتهي، ففي فضاء الإيمان تترعرع مشاعر الإحساس بذوي الحاجات وتتهذب غرائز النفس وأنانيات المجتمع، وتتراجع نزعات الحرص والتهافت على الاستمتاع، وتنطلق من ثم مشاعر سخاء ومودة (رحماء بينهم)[الفتح:29]، ورفاهية روح لا تسعد إلا إذا غمرت الآخرين بعطفها وكرمها. ولا تنبت نزغات النفور من الدين والتبرم به إلا في المجتمعات التي تعشش فيها الكزازة والشح، ويحيا الفقير فيها محروما من لفتة عطاء و نظرة إحسان. لم يكتف الإسلام بالعظة الحسنة، والدعوة الطليقة، بل حول ميدان الإحسان إلى فريضة اجتماعية، ارتقت في تقديره إلى درجة ركن من أركانه، وعمود من أعمده بنائه الأساسية. وأسس لها بنياتها الوظيفية «مؤسسة الزكاة» التي تخول للفقراء حياة طيبةً تحفظ الكرامة والعفاف في ظل العطية والكفاف. إن الإحسان العمومي إذاً زكاةٌ ونماء، تزكو بها النفوس وتشفُّ، وتخبو في ظلها الأثرة الطاغية والأنانية البغيضة، وتتغذى وشائج الحب، وتُصان لحمة المجتمع من التفكك، إذ يَحفظ الإحسانُ على الفقير كرامته، وعلى الغني أمنه واستقراره، وتقي المجتمع مصارع شطحات التطرف الذي يهيجه الجوع، وتُلهبه المسكنَة، وتحرض عليه أوضاع الحرمان. لم يكتف الإسلام بتأسيس بيت الزكاة وتعيين موارده ومصادره، بل دعا إلى مطلق الإحسان، حتى لا تبقى في المجتمع فاقة إلا سُدَّت، ولا حاجة إلا قضيت، ولا كرب إلا انفرج وزال.(وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)[الذاريات 19]، ووسع دائرته، وأهاب بالجميع الانخراط فيه. تصديق ذلك قوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)[الحشر:9]. وتأمل قوله عليه السلام: «على كل مسلم صدقة». قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: «يَعْتَمِلُ بيدَيْه فينفعُ نفسه ويتصدَّقُ». قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: «يعينُ ذا الحاجة الملهوف». قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: «يأمرُ بالمعروف أو الخير». قال: أرأيت إن لَمْ يفعل؟ قال: «يمسكُ عن الشَّر فإنها صدقةٌ» رواه البخاري ومسلم. إن الوقف من المآثر الاجتماعية التي نمت في ظل الإسلام، وتنوعت مجالاتها حتى اتسعت للحيوان البهيم بعد اتساعها للإنسان، وأسهمت في تطوير ميادين خصبة وحيوية كالتعليم والطب، بما حولها إلى مؤسسة فاعلة في تنمية النسيج الاجتماعي ودعم تماسكه والإسهام في رقيه ونهضته. و المجتمع المدني اليوم مدعو إلى إحياء هذه المأثرة، وتطعيمها بالصيغ المعاصرة في الضبط والتتبع والمراقبة، إغاثة لملهوف و علاجا لمريض و تعليما لجاهل، واستئناف لنهضة منشودة، وسعيا نحو حياة طيبة ومباركة.