لحد الآن لدينا تصريحان رسميان حول الاستحقاقات الانتخابية المقبلة: تصريح رئيس الحكومة في الجلسة الشهرية الأخيرة بمجلس النواب والتي كشف فيها عن الأجندة الانتخابية المفصلة، وعن فتح المشاورات للتوافق حول القوانين الانتخابية، وتصريح وزير الداخلية الذي أقر نفس الأجندة، وركز على قضية المشاورات، وإن كان تحدث عن مقتضيات جديدة نسبها لمسودة مشاريع قوانين حكومية بخصوص قانون الجهة، وقانون الجماعات المجالس الإقليمية، وكيفية تسيير المجالس المحلية، وتحيين القوانين الأخرى سواء اللوائح الانتخابية ونمط الاقتراع. والحقيقة أن المشكلة ليست في أن يكون للحكومة عبر وزارة الداخلية تصور ورؤية لموضوع الانتخابات القادمة أو حتى مسودة مشاريع قوانين يمكن أن تعرض على الفرقاء السياسيين، ما دام أن الاتفاق حاصل على ضرورة اعتماد آلية التشاور بين الأحزاب السياسية لتحيين القوانين حتى تصير قوانين قارة لا تتغير عند كل استحقاق انتخابي، إنما المشكلة تتمثل في سؤال أي مرجعية تم الاستناد إليها في عملية صياغة المسودات؟ وأي مرجعية سيتم على أساسها صناعة التوافق بين الأحزاب السياسية حول هذا الموضوع؟ لدينا اليوم مرجعيتان في الموضوع: مرجعية التحكم والهيمنة التي على أساسها وضمن سقفها أفرزت دينامية استحقاقات 2009، وما عرف عنها من فساد انتخابي خطير، ومرجعية دستور فاتح يوليوز الذي جعل الاختيار الديمقراطي للمغرب من الثوابت الجامعة للأمة، واعتبر الانتخابات الحرة والنزيهة أساسا لمشروعية التمثيل الديمقراطي، وألزم الإدارة الترابية بالحياد وعدم التدخل لفائدة المترشحين أو التمييز بينهم. لا نحتاج اليوم أن نستعرض مظاهر الفساد الانتخابي الذي عرفته محطة 2009، بدءا من فوضى اللوائح الانتخابية، والاستعمال غير الشرعي للبطائق الانتخابية، وانتهاء بمهزلة انتخابات رؤساء الجماعات والمجلس الإقليمة والجهوية، والأدوار التي قام بها نهج التحكم لصناعة الخرائط الانتخابية في المدن، ووضع خطوط حمر على أحزاب بعينها، والضغط على أحزاب أخرى بأساليب ابتزازية للابتعاد من هذا الحزب أو الاقتراب من ذاك، ولا نحتاج أن نذكر بالمآلات الخطيرة التي انتهى إليها وضع هذه المدن مع التمثيليات المصنوعة، فهذا مما يلاحظه المواطن ويكتوي بناره في الدارالبيضاء وطنجة على الخصوص اللتان عرفتا أسوأ حالات الهيمنة والتحكم والابتزاز السياسي. مرجعية دستور فاتح يوليوز واضحة في مناقضة دينامية 2009 التي كانت من بين أسباب اندلاع الحراك الشعبي، والمسار الإصلاحي والديمقراطي الذي مضى فيه المغرب، والتحديات الكبيرة التي تواجهها البلاد تجعلها لا تتحمل أي نكوص ولو خطوة صغيرة إلى الوراء، بل لا تتحمل توظيف قضية بين الأحزاب السياسية لتبرير عدم التقدم بأي خطوة في الإصلاح السياسي الانتخابي. لدينا لوائح انتخابية معيبة استنفذت أغراضها، ولم تعد قادرة على تحمل السقف الديمقراطي الذي وضعه دستور 2001، كما لدينا أيضا قوانين أظهرت الممارسة العملية أنها ساهمت بقدر كبير في إنتاج واستمرار الفساد الانتخابي، فلم يعد من الممكن اليوم أن يستمر انتخاب رؤساء الجماعة بتلك الطريقة البئيسة التي "يعتقل" فيها المنتخبون، ويعزلون عن محيطهم لأيام، وتسحب منهم هواتفهم النقالة، يأكلون ويشربون، ثم يصوتون مقابل مبالغ مالية . مغرب دستور فاتح يوليوز هو أشرف وأنبل من أن تستمر فيه هذه الممارسات القذرة، وهو أجدر بأن يتم فيه اتخاذ قرار سياسي جريء بتغيير اللوائح الانتخابية، واعتماد البطاقة الوطنية أداة وحيدة للتصويت، وتعديل قوانين انتخاب رؤساء الجماعات ومكاتب المجالس الإقليمية والجهوية بالشكل الذي يقطع مع كل أنماط الفساد الانتخابي المتنوعة التي أفرزتها محطة انتخابات 2009. المغرب اليوم يوجد بين خيارين، خيار اعتماد مرجعية دستور ففاتح يوليوز، والتقدم خطوة أخرى في دينامية 25 نونبر، بما يقتضيه ذلك من فتح ورش الإصلاح الانتخابي لمرة واحدة حتى يتم بناء الأساس المتين لمشروعية التمثيل الديمقراطي، أو خيار النكوص والعودة إلى مخاطر دينامية 2009. نأمل أن يكون سقف هذه الحكومة أكبر من مجرد التعديل الجزئي للقوانين الانتخابية، وأن تتحمل المكونات السياسية مسؤوليتها في بناء القواعد القانونية لاستحقاقات انتخابية حرة ونزيهة لا مدخل للطعون السياسية فيها.