يبدو أن الحديث عن السعة الدلالية للسان العربي أو عن قدرته البيانية لن يجد مشروعيته إلا في ظل الاعتراف المبدئي بعدم إمكانية وفاء الترجمة من وإلى لغة أخرى بتميزه التعبيري. فمن الواضح عند القدماء أن النقل بصفة عامة لا يمكن أن يطابق بين النص الأصلي والنص المترجم حتى اعتبرت الترجمة 'خيانة' للنص. يقول الجاحظ :"إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قال الحكيم على خصائص معانيه وحقائق مذاهبه...وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها مثل مؤلف الكتاب وواصفه. فمتى كان رحمه الله تعالى ابن البطريق و ابن ناعمة و ابن قرة مثل أرسطاليس ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟". إذ يقر الباحثون قدامى ومعاصرون بالعجز عن مطابقة النص المترجم للنص الأصلي، بحكم الاختلاف الموجود بين عوالم النصوص و اللغات. "فالفروق بين اللغات من حيث دلالة الألفاظ و أنماط الجمل و علاقات عناصر الجملة ووظائف الأدوات...الخ من الكثرة و التنوع بحيث لا يمكن لمعنى من المعاني أن يؤدى بلغة غير اللغة التي عبرت عنه أصلا من دون أن يلحقه تغيير أو تبديل أو تحوير". لكن الأمر يصبح أكثر صعوبة عندما يتعلق الأمر بنصوص تنتمي إلى لغة محاطة بهالة من التقدير، حيث يصبح العجز استحالة، ويغدو معها كل مس بنظام التواصل العربي ومكوناته إخلالا بمقتضيات العقيدة الإسلامية . فإذا كان المبدأ المضمر وراء كل الآراء العلمية القديمة هو أفضلية العربية و قدرتها التعبيرية، حتى عد مجرد الاعتراف بلغة غيرها خللا معرفيا كما قال ابن جني :" لو أحست العجم بلطف صناعة العرب في هذه اللغة و ما فيها من الغموض و الرقة لاعتذرت من اعترافها بلغتها فضلا عن التقديم لها و التنويه منها "، فإن المقارنة بينها وبين باقي اللغات تثبت إعجازها اللفظي والأسلوبي، مما يضع المترجم أمام العجز عن نقل الكلمات بنفس الحسن و الجمال النظميين. وقد أرجع ابن سنان هذا العجز إلى أن " لغتنا فيها من الاستعارات و الألفاظ الحسنة الموضوعة ما ليس مثله في غيرها من اللغات. فإذا نقلت لم يجد الناقل ما يتوصل به إلى نقل تلك الألفاظ المستعارة بعينها و على هيئتها لتعذر مثلها في اللغة التي تنقل إليها "1. وحتى يثبت هذه الحقيقة يورد رأي أحد العارفين باللغتين السريانية و العربية الذي أقر :"أنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني قبحت و خست ، وإذا نقل الكلام من السرياني إلى العربي ازداد طلاوة و حسنا . وهذا الذي ذكره صحيح يخبر به ، أهل كل لغة عن لغتهم مع العربية". إضافة إلى هذا المميز اللفظي للسان العربي نجد استحالة الترجمة من وإلى العربية ناتجة عن سعتها الدلالية على معجميا وأسلوبيا. ففيما يتعلق بالمفردات يجزم العلماء بأن اتساع القاعدة المعجمية للعربية يجعل إمكان وجود مقابل لها في لغات أخرى أمرا في غاية الصعوبة.يقول ابن فارس:"ومما لا يمكن نقله البتة أوصاف السيف و الأسد والرمح وغير ذلك من الأسماء المترادفة ، ومعلوم أن العجم لا تعرف للأسد اسما غير واحد .فأما نحن فنخرج له خمسين و مائة اسم". أما على الصعيد الأسلوبي فاستحالة النقل تبدو أكثر جلاء، لأن أهم أركان التواصل العربي وأغلب سننه التي لا توجد في غيره، هي الظواهر البلاغية من حذف وزيادة وتقديم وتأخير... ولذا ينقل ابن فارس عن أحدهم القول: "ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية و الرومية ، وترجمت التوراة و الزبور وسائر كتب الله عز وجل بالعربية،لأن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب". وجملة القول ، إن أهم ركائز القدسية اللغوية هي التنزيه عن كل إمكانيات التساوي مع اللغات الطبيعية الأخرى. ففي الكلام البشري عموما يكون الجوهر تواصليا والغاية إيصال الأفكار والمشاعر والتعبير عن الأحداث. أما في حالة الكلام العربي فإن هاته العناصر تأخذ مظهرا عقديا تقديسيا، حيث يصعب إيجاد مثيل له في التعبير . لأن الذي فضله هو خالق كل الألسنة ، والله جل ثناؤه أعلم حيث يجعل الفضل، كما قال ابن فارس . وبحكم هذه الأفضلية يستحيل الحديث عن النقل من وإلى العربية .