مباحثات مغربية بحرينية لتعزيز التعاون في مجالات التنمية الاجتماعية    توقعات أحوال الطقس في العديد من مناطق المملكة اليوم الجمعة    بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مواجهة المغاربة لأزمات القحوط والمجاعات .. إطعام ونهب وزكوات
نشر في أريفينو يوم 31 - 10 - 2020

إن المتأمل لأول وهلة في تاريخ الجوائح والأوبئة من جفاف وجوع وطواعين وكوارث مدمرة أخرى، كالزلازل والفيضانات والقحوط وزحف الجراد، يثيره هذا التلازم الذي يبدو جليا بين ظواهر الجفاف والجوع عبر تاريخ المغرب، ثم الأوبئة بمختلف أنواعها ولا سيما الطاعون، سواء من حيث أطوارها وامتداداتها وتموجاتها بين هذه المنطقة وتلك، أو من حيث نتائجها العامة، التي قد تؤدي إلى إعادة تشكيل كل البنية الاجتماعية Structure sociale والبشرية من جديد وحلول أخرى محلها.
نحصر زاوية المعالجة هنا في محور مهم عبر هذه الظواهر، التي كان يعرفها المجتمع المغربي، إن بشكل متقطع أو دوري، طيلة العصور الوسطى (بالفهم السائد حاليا لتلك العصور) وجزء كبير من العصر الحديث.
ويتمثل المحور في النتائج الاقتصادية والاجتماعية لتلك الكوارث والآفات وكيف تصدى لها المغاربة، سواء في إطار التكافل الاجتماعي المبرر شرعا ناهيك عن بعده الإنساني، أو في الاتجاه المعاكس وما يفترضه من أشكال نهب وسلب وظلم وبطش كالجبايات وسلب أرزاق الناس بالحق وبالباطل، ويندغم في ذلك رد فعل المخزن إزاء مثل هذه الأزمات الطاحنة، باعتباره ساهرا ومؤطرا نوعا ما للمجتمع المغربي على الأقل منذ الفترة السعدية، إلى جانب القبيلة التي لعبت دورا مهما أيضا.
بمعنى أدق، لنطرح السؤال الأساس: ما هي ردود فعل المغاربة اقتصاديا واجتماعيا إزاء هذه المصائب والجوائح؟، ليس من أجل القضاء عليها طبعا، لصعوبة ذلك بل واستحالته في جميع الأحوال، وأولا واخيرا، باعتبار أن ذلك النوع من التصدي لم يكن فعالا تماما في نهاية المطاف، ولأن تلك الآفات والمصائب كانت تتكرر دوريا تقريبا، ولكن على الأقل للحد من آثارها الكارثية على الفرد والجماعة. ونحن نعلم الآن علم اليقين أن البشرية، بكل تقدمها العلمي والتقني وبجميع المؤسسات العلمية ومختبرات البحث، بكل جحافل الأطباء والباحثين عبر أنحاء المعمور، لم تستطع أن تجد لقاحا فعالا ضد وباء "كوفيد 19" إلى حد الساعة، فما أدراك بعصور سابقة، لم يكن الطب ولا وسائل العلاج خلالها بالمستوى الذي هو عليه الآن.
بات من المعروف أن المغرب قد شهد طيلة تاريخه الممتد وعانى دورات من الجفاف والأوبئة والمجاعات وزحف الجراد. وقد أحصى المرحوم الحسين بولقطيب 34 مجاعة في العصر الموحدي وحده، وكانت الطواعين تحدث تقريبا على رأس كل خمس عشرة سنة وأقل من تلك المُدد فترات الجفاف والمجاعات وغزو الجراد، ويكفي أن نذكر أن آفة الطاعون الرهيب، الموصوف بالطاعون الأسود لسنة 1347 م/ 749 ه، والذي ضرب أوروبا وأجزاء كبرى من العالم الإسلامي، قضى على حوالي 24 مليون إنسان في أوربا خلال خمس سنوات فقط وأتى على ربع السكان في الشرق الأوسط ثم شمال إفريقيا.
وإذا كانت المظان والمصادر والوثائق التاريخية والظهائر والرسائل السلطانية وكتب النوازل والمناقب والرحلات شحيحة في هذا المجال، فإن النهج الأوفق والسليم – في نظرنا وبالنسبة لعموم الباحثين – يتمثل في محاولة صياغة ما يمكن وصفه بالتفسير المركب للعوامل التاريخية، عبر اعتماد التاريخ الاجتماعي وبانفتاح على البعد الاقتصادي، ثم على تاريخ الذهنيات، بمعنى عدم الارتكاز على العوامل السياسية وحدها، كالصراعات على السلطة والحروب الأهلية مثلا؛ بل التوسل أساسا بعوامل أخرى، قد تكون مساعدة وربما حاسمة أحيانا في فهم واستيعاب الحدث التاريخي، وأبرزها دور الأوبئة والمجاعات والجوائح قد تبدو لنا بعض الأحداث والمصائب عنصرا عابرا في سديم الواقعة التاريخية، لكن سرعان ما تتضح أهميته باستنطاق تلك الوثائق وتحليل مضامينها بغية الاستفادة من دروس الماضي وتجاربه المريرة وعبَره بالأساس.
أمام حجم الكوارث والجوائح، لم يكن رد فعل المغاربة كسائر المجتمعات المشابهة في نفس الحجم الرهيب، وهذا أمر طبيعي تاريخيا، بالقياس إلى تواضع وضعف أساليب الوقاية وطرق العلاج بالنسبة للجوائح. كما لم يكن ممكنا التصدي لظاهرة القحط وزحف الجراد، سوى ما كان من بعض المعالجة الجزئية للنتائج الاقتصادية الكارثية كالجوع وانهيار الإنتاج الزراعي والحرفي وتراجع المستوى الديمغرافي.
فبغض النظر عن انتشار الأفكار القدرية والغيبية واعتبار تلك الجوائح عقابا من السماء، بسبب انتشار البدع والمعاصي وفساد أخلاق الناس، يمكن القول في المستوى الأول، أي التصدي لجائحة الطاعون والتي تكون عادة مسبوقة بكارثة الجفاف وشح الأمطار أن النتيجة المنطقية المترتبة عنه هي المجاعة ببساطة، فيموت الخلق بالمئات بل بالآلاف، وخاصة منهم الفقراء وذوي الحاجة.
يلجأ الناس في مثل هذه الأحوال إلى أكل الجراد مشويا ومسلوقا ومقليا وهو الذي يكون بدوره في أزهى مواسمه، متزامنا مع أكثر الجوائح تواترا وعلى رأسها القحوط، علاوة على تناول بعض النباتات البرية في مواجهة آفة الجوع، كنبات إريني (الدغفل) والخروب والنبق والبلوط والخبيزة؛ بل إن المغاربة أكلوا الجيف وباعوا أولادهم على سبيل السبي والنخاسة أو تم ذبحهم ببساطة نتيجة اليأس شبه التام، ووصل الأمر ببعضهم إلى حد اعتناق المسيحية، من أجل الطعام. كما تعاطت بعض النسوة للبغاء في سبيل ذات الهدف أي الطعام، إما في فترة الاحتلال البرتغالي أو بعدها. وكان من إفرازات تلك الأزمة الطاحنة الغلاء الفاحش؛ فقد ورد عند الضعيف في تاريخه "كان في العام (1662م/ 1072ه) غلاء عظيم حتى أكل الناس الموتى والجيف وذبح فيه الأطفال، والعياذ بالله من سخطه".
جاء في "نشر المثاني" أنه نتيجة شح المطر سنتا 1736 و1738 ارتفعت الأسعار وأمر السلطان محمد (الثاني) بن م إسماعيل بنهب جميع من يظهر عنده الزرع بمكناس وزرهون وفاس. ومن المرجح أن يكون نفس الأمر قد وصل إلى شمال وشرق البلاد وبينها منطقة تازة، فكان جنوده ينهبون، ولا يبلغون السلطان إلا القليل. وبموازاة كل هذا، نشطت عصابات "السياب" في المدن خاصة، فكانوا يهجمون على البيوت ويقتلون من يشاؤون وينهبون ما يجدون أمامهم من بقر وغنم وأثاث ومع ذلك، لا يمكن إغفال الدور الاجتماعي للمخزن أيام الأزمات الحادة، حيث كانت الأهراء (ج الهري وهو المخزن الكبير أو مستودع الحبوب والحنطة) تُفتح ويتم إطعام الضعفاء والفقراء، في غالبية فترات المجاعات التي عرفها المغرب بين القرنين الثامن والتاسع عشر.
لقد بنى السلطان م إسماعيل العديد من خزائن الطعام والمياه بعدد من المدن، وعلى رأسها عاصمته مكناس ثم فاس ومراكش، استعدادا واستباقا لأيام الأزمات والشدة وكبنائه لصهريج "بيت الحبوب " الذي كان قائما شرق مشور تازة وحمى المدينة من العطش طيلة فترات من تاريخها، حينما كانت القبائل المحيطة تقطع المياه لسبب أو لآخر ونتيجة أيضا لشحها خلال السنوات العجاف.
كما قامت الأحباس، وأهمها ما سمي بأوقاف الخبز، بأدوار مهمة في إطعام الجوعى وكساء الفارين بأرواحهم من المجاعة، أو من عدوى الأوبئة ولعبت المطامير (ج مطمورة) دورا مهما عند المغاربة أيام أزمات الجوع؛ فقد كان الكثير منهم، وخاصة ذوي السعة طبعا، لأن الفقراء لم يوجد لهم شيء كي يدخروه، كان الكثير من الأغنياء وذوي اليسر يوفرون أحجاما مهمة من حبوب ومؤونة مختلفة اتقاء للأيام الصعبة، وكثيرا ما نجحت هذه الوسيلة في سد غائلة المجاعة واستمرار النسل وبالتالي تواصل السيرورة الاجتماعية.
وكانت توجد بتازة مطامير عديدة، مملوكة لبعض التجار والأعيان، ظلت مليئة بالحنطة إلى عهد قريب نسبيا، خاصة في حيزها الشرقي أسفل الملاح اليهودي (شارع عبد الخالق الطريس حاليا) لحساب بعض أثرياء تازة أو يهودها. كما كانت توجد بالمدينة وغيرها من الحواضر العتيقة غرف خاصة كانت تسمى "الخزين" توضع فيه القلل والسلال الكبيرة تجصص بالطين، وكانت تحضن مختلف أنواع المؤونة والقوت ويعلق الأمين البزاز بأنها أحد الثوابت التقليدية في حياة بعض المدن التي تعرضت في عصورها المختلفة لضروب المحن.
كما كانت الأرامل من بين من ضاق بهن الحال بسبب الجوع والفقر، يطلبن نصيبا من الزكاة حسب ما ورد في بعض النوازل، ولا ننسى الأدوار المعنوية والدينية التي كانت تلعبها (وما زالت) صلوات الاستسقاء، لاستدرار الأمطار من العلي القدير والتي ظل نجاحها رهينا بمشاركة أوسع فئات الناس وجمهور المؤمنين، تحت إشراف وإمامة أحد صلحاء أو أولياء منطقة معينة وأحيانا كان يشرف عليها السلاطين أنفسهم.
وتذهب بعض الروايات الشفوية إلى أن القضاة بمدن مغربية محددة كانوا يخرجون حفاة ووراءهم العدول وطوائف المنتسبين وصبيان الكتاتيب وهم يحملون الألواح القرآنية على رؤوسهم، وتتبع كل ذلك طقوس معينة كتوزيع الكرموس والذبيحة أحيانا وكل ذلك استدرارا لرحمة السماء المتمثلة في الغيث النافع.
وفي مجال الزكاة أيضا، ما حكي عن الفقيه موسى العبدوسي (ت 776 ه) الذي كان يخرج للضعفاء في زكاة الحرث، حسب نفس الرواية تسعة أعشار صابته ويتمسك بالعشر عكس الزكاة، وكان يقول لمن يستفهمه عن ذلك "من سوء أدبي أن أخرج العشر وأتمسك بتسعة أعشار".
لقد قامت الزوايا ومعها حلقات المتصوفة أيضا بنفس دور الأوقاف، فكانت تطعم الفقراء والغرباء، في الأيام العادية وفي أوقات اشتداد الأزمات. ولنا في الزاوية التوزانية، التي كانت بزعامة القطب س امحمد بن علي التوزاني بتازة والريف، والتي نشطت في البداية كفرع من الزاوية الناصرية الأم بتامكروت، ثم استقلت عنها، وكذا الزاوية الوزانية وبدرجة أقل الدرقاوية بتازة نماذج واضحة على هذا النوع من التكافل الاجتماعي والتضامن أوقات المحن، وكان ذلك من جهة أخرى يساعد على مد نفوذها الروحي والسياسي أحيانا؛ بل إن المساجد ودور العبادة نفسها ظلت تقوم بنفس المهام إلى جانب العبادة أي الاضطلاع بذلك النوع من التكافل الاجتماعي.
باستثناء بعض أنظمة السقي شبه البدائية والبسيطة والمتسمة بمحدوديتها والتي كانت تقوم بجوانب الأنهار والآبار، وكانت مخصصة أساسا لإنتاج الخضر والبرسيم وأشجار الفاكهة، فإن كل جهود الفلاح ظلت رهينة برحمة السماء ببساطة وبما يمكن أن تجود به من غيث نافع، وإلا فإن القحط يضرب الأرض والضرع والماشية بكل شدة ودون تمييز. ومن ثمة، تحدث المجاعة بشكل لا محيد عنه، رغم كل ما ذك ذكرناه سابقا، تبعا لطبيعة البنية الإنتاجية التي تغلب عليها عوامل الكفاف Subsistence، بحيث لم تتطور بنية الإنتاج والاقتصاد بشكل عام ولم تحقق التراكم التاريخي المناسب والمطلوب.
وقد سعى الفقهاء وأهل الشرع إلى حل المشاكل الناجمة عن الأزمات المختلفة وخاصة المجاعة، فكان العلاج أحيانا هو إلغاء العقود الناشئة عن الأوضاع المأزومة، أي زمن الاضطرابات الناجمة عن أوضاع المجاعة، فاعتبر كثير من الباحثين ذلك من أنبل الخطوات التي انتبه إليها القضاة والعدول وحتى المحتسبون خلال أيام الشدائد التي تكالبت على المغاربة بين الفينة والأخرى.
يمكن الإشارة إلى أن النقص الحاد في الكتلة الديمغرافية، نتيجة عوامل الفناء والآفات الطبيعية وتضاف إليها الحروب المختلفة، قد أدت إلى عدد كبير من الهلكى والمفقودين والأسرى والمعطوبين والمفلسين. وفيما يتعلق بالوفيات، قد تكون ضمن قراءة متأنية في صالح المجتمع، حيث رب ضارة نافعة؛ ذلك أنها لا تحدث توازنا في المواد الغذائية، بقدر ما كانت تقلل من الأفراد الذين ينبغي إطعامهم، ومع ما في هذه للنظرة من ملامح مالتوسية، فإن كثرة الوفيات في حد ذاتها كانت من العوامل التي ضمنت بشكل عام استمرار وتوازن مجتمع الكفاف.
جاء في كتاب "الفقر والفقراء بمغرب القرنين ال16 وال17" لمحمد استيتو أن ما يفرق فعلا بين عوامل تلك الوفيات المتسمة بالحدة والكثرة هو أن الأوبئة تضرب الناس غالبا، من مختلف الأجناس والطبقات والأعمار؛ بينما تصيب المجاعات على العموم فقراءهم، ويكون وقعها شديدا على ضعاف الأجساد خاصة الأطفال والمسنين، في حين تذهب الحروب بالشباب غالبا الحديث السن. ونذكر في هذا السياق الانتفاضات، التي ظلت تحدث هنا وهناك ضد المخزن كرد فعل على تغول الجوع الناتج عن القحط المخرب للحرث والنسل.
إذا كانت المجاعات الناجمة عن القحوط تعالَج نوعا ما بالصدقات والزكوات وأشكال التضامن الاجتماعي الأخرى، بينما تلجأ فئات من المجتمع إلى النهب والسلب والقتل أحيانا دفعا لغائلة الجوع (الجوع كافر كما هو معروف في ثقافتنا المغربية) وفتح الخزائن واستغلال المطامير بالنسبة لآخرين، إذا كان الأمر كذلك في حالة المجاعات، فإن الأوضاع تختلف إلى حد ما بالنسبة للأوبئة كالطاعون والكوليرا (بوكليب ويبدو أنه وباء أحدث زمنيا من الطاعون)، فقد واجه المغاربة معضلة الأوبئة الفتاكة بالهرب والهجرة أساسا من المدن الموبوءة نحو البوادي بالدرجة الأولى، مع ما يتبع ذلك من إغلاق للحواضر المعنية وتخصيص ملاجئ ومارستانات للمصابين ومن نماذج ذلك ظهور الكارنتينات أي المحاجر الصحية، والتي يدوم مقام المصابين بها مدة أربعين يوما، حتى تظهر عليه آثار التعافي أو يرحل إلى جوار ربه.
وباستثناء بعض كبار القوم في أوساط المخزن أو الأعيان أو بعض العلماء الذين استفادوا من الأدوية الحديثة أو حتى البعثة الطبية بطنجة، فإن غالبية ساكنة البلاد بقيت عزلاء، في مواجهة مصيرها مع الطاعون أو الكوليرا أو الأنفلونزا الحادة أو التيفوس أو الحمى الصفراء، اللهم ما كان من بعض "العشوب" والأدوية القليلة المعروفة وقتذاك علاوة على ما سمي بالترياق؛ غير أن جميع تلك الأشكال والممارسات لم تكن شمولية أو ممنهجة، تلم جميع الأفراد والجماعات، الشيء الذي يبقي أكثرية الساكنة فريسة للوباء الذي لا يرحم . وقد بدأ المغاربة على وجه العموم يتعرفون إلى الطب العصري منذ أواسط القرن التاسع عشر، وشرع فعلا عدد منهم في الاستفادة من هذا الطب رغم منشئه الأوروبي، ليتنامى رقم المغاربة المستفيدين بعد ذلك وخاصة بعد فرض الحماية على المغرب.
عادة ما يؤدي الفراغ الديمغرافي، الناشئ عن الوباء إلى ترحال قبائل وحلول أخرى محلها. كما يلوذ اللصوص وقطاع الطرق بتلك المناطق الخلاء فيعمرونها، ويؤدي الضعف الملموس في قوى الإنتاج إلى نقص شديد في الموارد الضريبية للدولة أو المخزن، الشيء الذي يؤدي إلى نسج وفرض ضرائب جديدة، فهي حلقة مفرغة un cercle vicieux في حقيقة الأشياء وواقع الأمور.
كما عرفت المدن إخلاء شبه تام في بعض الفترات الحادة للأوبئة، سواء منها المدن العواصم / الحواضر الكبرى كفاس ومكناس ومراكش وطنجة وتطوان أو المدن المتوسطة والصغرى؛ فهذه تازة انتشر فيها الوباء سنة 1754، أي في عهد السلطان م عبد الرحمان بن هشام "حتى كادت أن تخلى أي تفرغ من سكانها"، فهؤلاء إما رحلوا عن الدنيا أو هاجروا إلى مناطق أخر محسوبة على بادية المدينة أو حتى بواد أخرى.
تلافيا لانتشار العدوى بين الناس وخاصة في الأماكن العمومية، كان إغلاق المساجد شيئا طبيعيا ومعمولا به، خاصة في فترات الذروة للأوبئة الفتاكة؛ فهذا المؤرخ القادري في نشر المثاني "يفيد بأنه تم إغلاق جامع القرويين بفاس" و"تعطلت فيه صلاة الجمعة والتراويح" سنة ألف وستمائة وواحد وثلاثين (1631) في أواخر عهد السعديين، ولم يكن ذلك نتيجة قرار سلطاني أو فتوى فقهية وإنما لخشية الناس على حياتهم بسبب الفتن والصراعات السياسية وانتشار الوباء.
صفوة القول هي أن جميع أشكال التصدي للأوبئة والقحوط والمجاعات، إن استطاعت أن تضمن استمرار المجتمع والنسل، فهي لم تستطع تلافي ضحاياها وآثارها المدمرة، واستمر الوضع كذلك حتى مجيء الاستعمار الذي فكك البنيات التقليدية، في حدود حداثة معاقة هي الأخرى .
* رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.