بمناسبة الزيارات الملكية المفاجئة للمدن، أصبح الجميع يتحدث عن رؤساء الجماعات والمجالس البلدية والعمال وولاة الأمن والجمارك والدرك الذين يضعون أيديهم على قلوبهم خوفا من أن تنكشف صفقاتهم وسرقاتهم وينتهوا في الزنزانة مثلما حدث لموظفي الحسيمة. لكن وسط هذا الجدل، لا أحد يستحضر مسؤولية الولاة في ما يقع داخل المدن والمناطق من «سيبة» منظمة، مع أن الوالي يعتبر ممثل الملك في الجهة أو المنطقة التي يتم تعيينه فيها. وإذا كان الوالي «واقف على شغلو»، فإن الملك لن يكون بحاجة إلى النزول بنفسه إلى الأزقة والشوارع لتفقد الأشغال والبنيات التحتية. وبما أن أغلبية الولاة مشدودين إلى كراسيهم بمسامير «عشرة»، فإن المدن تسبح في الفوضى العمرانية والأمنية، مما يفسر نزول الملك بنفسه لتفقد مدن مملكته. كيف يتم اقتراح واختيار هؤلاء الولاة الكسالى الذين أصبحوا محتاجين إلى من «ينغزهم» لكي يغادروا مكاتبهم وينزلوا لرؤية العفن الذي أصبح يعشش في أنحاء مدنهم؟ لنتأمل قليلا طريقة اقتراح عبد الفتاح الهمام لشغل منصب وال على جهة وجدة. صباح الرابع والعشرين من أبريل الماضي، كانت وكالة المغرب العربي للأنباء تبث قصاصة تعيين وال جديد على جهة وجدة مكان الوالي الإبراهيمي، الذي يبدو أنه نسي وظيفته الأصلية وتفرغ لاستقبال «سيغولين روايال»، المرشحة الاشتراكية السابقة للرئاسة الفرنسية، ونشر صوره معها في الصحافة المحلية. الآن بعد أن تم تجريده من منصب وال، سيكون لديه الوقت الكافي لكي «يقابل» ضيعته الفسيحة التي تبلغ مساحتها 350 هكتارا بعين الشكاك بطريق إموزار، كما سيكون لديه الوقت لكي «يقابل» قصريه الكبيرين بطريق زعير اللذين شيدهما فوق أراضي «الضومين». الوالي عبد الفتاح الهمام، الذي أخذ مكان الإبراهيمي، حظي بقصاصة خبرية من وكالة المغرب العربي للأنباء نسبت إليه أشياء غريبة ومتناقضة في سيرته الذاتية. وقد كانت القصاصة «مطروزة» بشكل يجعل قراءها، خصوصا الذين لا يعرفون «فتحي» ومساره المهني جيدا، يعتقدون أن «الهمام» رجل سلطة من قديم الزمان. وحسب وكالة بوزردة للأنباء، فالسيد الهمام كان منذ سنة 1981 رئيس القسم الاقتصادي بولاية الدارالبيضاء، وهي وظيفة على درجة كبيرة من الأهمية في مدينة تعتبر القلب النابض لاقتصاد المغرب. لكن المدهش في الأمر أن وكالة بوزردة تعود لكي تقزم لنا بطلنا «الهمام» سنة 1983 إلى مجرد رئيس مصلحة استقبال بالمعرض الدولي للدار البيضاء. هنا يمكن أن نتخيل أمرين لا ثالث لهما، إما أن الوكالة سهت، وسبحان من لا يسهو ولا ينام، وإما أن «الهمام»، الذي كان «يلعب» بالمفاتيح الاقتصادية للعاصمة بين أصابعه، تعرض لعقوبة إدارية طوحت به من رئيس القسم الاقتصادي إلى مجرد رئيس مصلحة «لافوار». هنا بوزردة لا يفيدنا بأية معلومة، فهو يعمل في مثل هذه المواقف بحكمة «الفم المسدود ما يدخلو دبان». مفاجآت قصاصة وكالة بوزردة لا تنتهي، خصوصا عندما ستصل إلى سنة 1986، وتخبرنا بأن «الهمام» شغل منصب نائب رئيس قسم الشؤون العامة. وربما هذه أول مرة نسمع فيها أن موظفا يتم تعيينه في منصب نائب رئيس قسم في الوقت الذي سبق له قبل خمس سنوات أن شغل منصب رئيس قسم. هل يتعلق الأمر بعقوبة إدارية جديدة؟ لا جواب. وبقدر ما حرصت قصاصة وكالة الأنباء على إحصاء المناصب التي تقلدها «فتحي» في الدارالبيضاء، رغم «تخلاط العرارم» غير الواضح الذي اعترى هذا الحرص، فإن الوكالة أصيبت بفقدان الذاكرة عندما تعلق الأمر بالحديث عن منصب «مهم» تقلده «الهمام» في الدارالبيضاء. فقد تناسى بوزردة عمدا أن يشير إلى أن الوالي «الهمام» اشتغل في «الباطوار» و«مارشي كريو». فهل خجل من ذكر هاتين الوظيفتين المحترمتين اللتين مارسهما «الهمام» لسنوات، حيث كان مشرفا على مراقبة الذبائح وشاحنات الخضر والفواكه. يبدو أن الذين اقترحوا «فتحي» للذهاب واليا على منطقة وجدة لم يكونوا متحمسين لذكر هذه المحطات المهنية «اللامعة» في سيرته الذاتية التي قدموها إلى الديوان الملكي، كما أنهم لم يروا من الضروري أن يشيروا إلى أن «فتحي» غادر الداخلية في فترة من الفترات لكي يتقلد مسؤولية تسيير شركة «إيكوماي» للنسيج في سيدي البرنوصي بالدارالبيضاء. وهي، بالمناسبة، الشركة التي أفلست ودخلت في التصفية القضائية وشردت عمالها. بمعنى أن السيد «الهمام» غادر قطاع الوظيفة العمومية لكي يشتغل في القطاع الخاص. وطبعا، فقصاصة الوكالة لا تشرح للرأي العام الظروف التي غادر فيها سعادة الوالي القطاع العام لكي يلتحق بالقطاع الخاص على رأس شركة للنسيج الراقي يملك فيها آل بنيعيش، المعروفين باستثماراتهم في قطاع النسيج والمطاعم، أسهما مهمة. لكن الحنين إلى الداخلية سيشد من جديد بطلنا «الهمام»، فسنوات بعد ذلك سيغادر إدارة شركة «إيكوماي»، بعد أن وفر لها كل أسباب الإفلاس، وبقدرة قادر سيتم تعيينه عاملا. أين يا ترى؟ في المنطقة نفسها التي توجد فوق ترابها شركة «إيكوماي» التي كان يسيرها لسنوات. لا أحد في وزارة الداخلية طرح السؤال حول هذه المصادفة العجيبة التي جعلت مسيرا سابقا لشركة خاصة يغادرها لكي يتم تعيينه عاملا على المنطقة التي توجد الشركة تحت نفوذها الترابي. يبدو أن أولياء نعمة «فتحي» الذين جلبوه لكي يسير لهم شركتهم، فهموا أن دوره على رأس الشركة التي استطاعت مراكمة الملايير كأرباح قد انتهى، خصوصا بنهاية العصر الذهبي للنسيج المغربي مع ظهور بوادر الأزمة العالمية ولجوء أغلب الشركات الكبرى في المغرب إلى الاحتماء تحت مظلة التصفية القضائية للإفلات من دفع المستحقات للعمال والضرائب. وعندما تفكر شركة كبيرة للنسيج في تسريح ألف عامل من عمالها، فإن هذا الأمر يحتاج إلى تخطيط مسبق، تحسبا لردود فعل اجتماعية غاضبة. ولعل أنسب مكان يمكن أن ينتقل إليه مسير الشركة لسل شوكة المستخدمين بدون إراقة دماء هو منصب عامل على المنطقة التي توجد فوق ترابها الشركة. هكذا تدار عملية الطرد بشكل أمني مدروس ومتحكم في تبعاته الاجتماعية. وهكذا تم بالفعل، فقد أغلقت الشركة أبوابها وسرحت عمالها. وبعد فترة وجيزة على إغلاق الشركة وإنهاء «الهمام» لمهمته على أحسن وجه، سيتم اقتراحه ليشغل منصب وال على وجدة. وهي المنطقة التي لدى أولياء نعمة «الهمام»، الذين وظفوه في شركة نسيجهم واقترحوه عاملا، مشاريع مشتركة مع ملياردير يتحدر منها (وجدي) اسمه علي بلحاج، يشغل منصب رئيس جهة وجدة ويشغل أيضا منصبا قياديا في حزب الأصالة والمعاصرة الذي قبل به بعد أن جلب إليه «رابطة حرياته». والملياردير علي بلحاج، رئيس الجهة، لديه مشاريع مشتركة في المنطقة الشرقية مع آل بنيعيش، أولياء نعمة «الهمام». وبنيعيش وعلي بلحاج والملياردير الوجدي بوعزة ناصر، الزوج السابق لسفيرة المغرب في البرتغال كريمة بنيعيش، يشكلون ثلاثيا لا يفترق. وهكذا، فليس من المستبعد أن يكون اقتراح «الهمام» واليا على منطقة وجدة مجرد إعادة لسيناريو تعيينه السابق عاملا على عمالة عين السبع، حيث مقر الشركة التي كان مكلفا بتسيير شؤونها. يعني عوض أن «يقابل» شؤون المنطقة «سيقابل» شؤون أصدقاء أولياء نعمته. وإذا كان علي بلحاج قد فشل في الحصول على مقعد بمجلس المستشارين بعد سقوطه المريع في انتخابات تجديد مقاعد الجهة الخاصة بقطاع الجماعات المحلية بالغرفة الثانية، فإنه لا شك سينجح في تمتين أواصر الصداقة و«العمل» مع الوالي الجديد الذي كون خبرة لا بأس بها في التسيير داخل «الباطوار» و«مارشي كريو» الذي يحقق القاضي سرحان في ملاييره المختلسة، وشركة «إيكوماي» التي قادها نحو الإفلاس وشرد ألف مواطن من مستخدميها لازالوا إلى اليوم في الشارع. غريب أمر هذه البلاد. عباس الفاسي ينصب على ثلاثين ألف مواطن في أكبر فضيحة عرفها المغرب، وعوض أن يكون أمام القضاء يصبح وزيرا أول. مدير شركة «إيكوماي» يتسبب تسييره العشوائي في تشريد ألف عامل، وعوض أن تتم محاسبته يجد نفسه قد عُيّن عاملا ثم واليا على منطقة وجدة. «فهمتو شي حاجة»؟