في موسم 2002 / 2003 عندما كان نادي أتلتيكو مدريد في آخر تدريباته الأسبوعية قبل مواجهة نادي مايوركا ، حضر فريق طبي إلى ملعب التداريب و انتظروا نهاية الحصة ليستدعوا حارس مرمى الفريق جيرمان بورغوس الأرجنتيني و انفردوا به في إحدى القاعات جوار مستودع الملابس .. بهدوء قال أحد الأطباء " جئتك على عجل سيد جيرمان لأخبرك بأمر يتعلق بنتائج التحاليل التي أجريتها قبل أسبوع .. لقد خلُصت تلك النتائج أنك تعاني من سرطان متقدم في كليتك اليمنى و لابد من تدخل جراحي عاجل لاستئصالها قبل أن يستفحل الأمر " ... بورغوس صمت محدقا في الطبيب للحظة طويلة قبل أن يجيب " كنت أشعر أن هناك شيئا ليس على ما يرام في جسدي .. حسنا سألعب مباراة الأحد و بعدها سأدخل إلى المستشفى " .. عقب عليه الطبيب بشكل حازم : " الأمر لا يسمح حتى بيوم واحد لتأخير العملية الجراحية .. كل شيء جاهز الآن في المصحة " .. في اليوم الموالي كان الحارس العملاق بورغوس ينام ممددا فوق سرير أبيض محاطا بالآلات الطبية بعدما أزال الجراحون كليته اليمنى و معها مهنة كرة القدم التي احترفها لسنوات طويلة في الأرجنتين و إسبانيا. في نهاية الستينات ببلدة ساحلية جنوب العاصمة بوينس أيرس ولد جيرمان رامون بورغوس .. هناك على شاطئ البحر تعلم في طفولته شيئان سيلازماه طيلة حياته .. كرة القدم و موسيقى الروك .. لعب حارسا لمرمى فرق صغيرة قبل أن ينتقل لنادي فيرو كاريل الذي وقع معه أول عقد احترافي بالموازاة مع استمراره في نشاطه الفني للموسيقى الشهيرة رغم محاولات إقناعه بالتفرغ لكرة القدم. أربع سنوات كانت كافية ليصبح نجما في الدوري الأرجنتيني بتألقه مع ناديه الأول. كان لابد له بعدها أن يتوج هذا التألق بأن ينتقل لصفوف أحد العملاقين التاريخيين في بلاد الطانݣو .. البوكا أو الريڤر .. كانت ريڤر بلات محطته الموالية التي سيكتشف فيها العالم حارسا غريب الأطوار .. بقامته الطويلة و ملامحه العابثة و شعره الطويل و طريقة وقوفه تحت " الخشبات " الثلاث و ارتدائه لسروال طويل مع قبعة لاعبي الكرة الطائرة الشاطئية ، كان بورغوس الذي لقبه الجمهور ب " المونو " و تعني الظريف في التعبير اللاتيني ، يخرج عن سياق المباريات المشتعلة بتدخلات لا تخطر على بال أحد لكنه ينقذ بها فريقه من الهزيمة أو يكون مساهما في انتصار مستحق.. " لكي تكون حارسا استثنائيا يجب أن تكون أحمقا " يقول جيرمان ردا على أسئلة الصحفيين عقب مباراة برسم كأس ليبرتادوريس تصدى فيها لضربة جزاء بطريقة غريبة . مُقامه في ريفر بلايت لن يدوم أكثر من أربع سنوات .. حقق فيها لقب البطولة الأرجنتينية و وجد أيضا مكانا في دكة بدلاء منتخب الطانغو لمباريات قليلة .. سنة 1999 كانت وجهته التالية مايوركا الإسبانية بتوصية من مواطنه هيكتور كوبير الذي ترك احتراما كبيرا خلال مقامه بنادي الجزيرة الساحرة .. " المونو " وجد هناك عالما مختلفا عن الأرجنتين .. وجود المقيمين الإنجليز في الجزيرة أحيى فيه موهبته الموسيقية في فن الروك ، فاندمج في تجمعاتهم و صار عضوا في مجموعة شبابية تؤلف الأغاني و تطرح الألبومات .. شيئا فشيئا بدأ يفقد تركيزه على كرة القدم حتى أنه فكر يوما في اعتزال اللعب و التفرغ لعوالمه الجديدة ... لم يلعب أساسيا كثيرا في موسمه مع مايوركا تخللته واقعة تدخل عنيف خلال إحدى المباريات ضد مهاجم نادي إسبانيول مانويل سيرانو ... قرار الجامعة الإسبانية كان قاسيا .. توقيف لأحد عشر مباراة و غرامة مالية هي الأعلى في حق لاعبي الليغا عبر التاريخ . موسم غير موفق دفع جيرمان إلى حمل حقائبه من مايوركا و الرحيل .. نزل في مدريد حيث الأتليتيكو التاريخي يخطط رفقة عجوزه المدرب لويس أراغونيس للتخلص من كبوة القسم الثاني و العودة إلى " البريميرا " مكانه النادي الطبيعي ... المونو بورغوس كان في مخططه أن يأتي لملعب بيسينتي كالديرون فقط لمساعدة الروخيبلانكوس على الصعود للقسم الأول و يعود بعدها إلى بلاده الأرجنتين .. لكن إسمه سيلتصق بالنادي لسنوات طويلة بعدها و سيكون حاضرا في مرحلة العودة إلى مجده القديم كواحد من أبرز الأندية الإسبانية بعد الريال و البارصا . صعد بورغوس مع أتلتيكو أراغونيس و لعب مباريات كبيرة محافظا على شخصيته الغريبة الأطوار التي تماهت كثيرا مع طبيعة جماهير النادي التي تقترب من أسلوب أمريكا اللاتينية في التشجيع و دعم اللاعبين .. لكن إصابته بسرطان الكلية حوّل كل شيء .. رغم العملية الجراحية و تماثله للشفاء ، إلا أنه قرر التوقف عن لعب كرة القدم و الإلتحاق بعالم التدريب .. أشرف على نوادٍ صغيرة في ضواحي مدريد لكسب التجربة في المهنة الجديدة .. حتى جاءته الدعوة من صديقه القديم دييغو سيميوني المتعاقد مع أتلتيكو مدريد ليكون ساعده الأيمن في تدبير الشؤون التقنية لنادٍ " احترق " فيه كثير من المدربين العالميين . " الشولو " و " المونو " سيشكلان ثنائيا قل نظيره في تاريخ كرة القدم الإسبانية .. ثماني سنوات حققا فيها لأتليتيكو مدريد ما لم يحققه أحد قبلهما .. كانا رجلين بمخ واحد خططا لوضع النهج التكتيكي المناسب الذي سيمكِّن النادي من الحفاظ على استمرارية التألق .. بورغوس خلال اشتعال المباريات طالما كان مصدر تحويل مجرياتها لصالح فريقه .. سيميوني يعترف بذلك في خرجاته الإعلامية و يثني كثيرا على تنبيهات المونو الذكية عندما يشتد عليه ضغط المباريات و يندمج في إيقاعاتها على خط التماس ... انسجام و تفاهم ناتج عن السنوات الطويلة من معرفة بعضهما بشكل دقيق .. يقول جيرمان بورغوس عن ذلك : " خلال الثماني سنوات الأخيرة قضينا أنا و سيميوني معا وقتا أطول مما قضيناه مع زوجاتنا و أولادنا " ... حتى عندما كان يغيب " الشولو " عن دكة البدلاء بسبب قرارات التوقيف الكثيرة التي تصدر في حقه ، كان بورغوس يأخذ زمام فريقه بكامل السهولة كما لو أنه المدرب الأول للنادي .. كان يحظى باحترام كبير من طرف اللاعبين من خلال الطريقة التي ينصتون لتعليماته خلال المباراة. ثماني سنوات من الألقاب و التألق على مستوى الدوري الإسباني و الكؤوس الأوربية .. و استقرار في المستوى التقني و استمرارية في تحقيق النتائج كان قد فقدها أتلتيكو مدريد لأزمنة طويلة . جيرمان بورغوس رأى أخيرا أن يبدأ مشواره التدريبي بشكل منفرد في تجربة أخرى بعيدا عن الأتليتيكو و عن صديق عمره سيميوني .. لكنه متأكد أنه سيعود يوما ما لقلعة الروخيبلانكو لأنها " لم تعد مجرد ناد لكرة القدم بالنسبة لي ، الأتليتيكو جزءٌ من الدم الذي يجري في عروقي " يؤكد جيرمان بورغوس .