على مدى أيام وأسابيع، صنعت أغنية "اعطيني صاكي" الحدث الإعلامي، وساعدت بعض الخرجات المتشنجة والمبالغ فيها في الدعاية المجانية لصاحبتها حيث تجاوز عدد مشاهدي هذا "العمل الفني" 10 ملايين ونصفا، في أقل من شهرين وهو رقم قياسي لا أطن أن أغنية مغربية وصلته في السابق، بما في ذلك أغنية "انت باغية واحد"، التي حققت شهرة بلغت الصين الشعبية، رغم أن كلماتها تحتاج إلى "اللقاط" للتعامل معها.. البعض أعطى الموضوع أكثر مما يستحق، بل سمعنا عن رفع قضايا أمام المحاكم بدعوى تحريض المغنية على الفساد بأغنيتها، واضطرت المعنية بالأمر للحضور إلى بلاتو أحد برامج القناة الثانية ل"تدافع" عن نفسها وتؤكد أن نيتها سليمة، وأنها في كل الأحوال تسير بخطى ثابتة نحو "التوبة".. بل تم استنساخ مشاهد مصرية ليس فقط في ما يخص حشر القضاء في موضوع "فني"، بل من خلال مقاربات عرفها الشرق سابقا من قبيل مقارنة "اللواء" عبد الوهاب بشعبان عبد الرحيم "شعبولا".. وهل الداودية سوى نسخة مغربية من هذا الأخير؟ لكن في ظل الضجيج الإعلامي والفيسبوكي، نسي كثيرون الوقوف عند الأهم، وهو أن شعبا مثل شعبنا لا يمكن أن ينتج سوى فن من نوعية "اعطيني صاكي".. وهذا ليس اكتشافا جديدا أو عبقريا، بل يمكن استقراء التاريخ الفني للمغرب منذ استقلاله، للوقوف على حقيقة "ناصعة البياض"، مفادها أن المغاربة "ما عندهومش" مع هذا المجال.بطبيعة الحال سيسارع كثيرون لاعتبار هذه الخلاصة نوعا من العدمية، لكن الفيصل في الموضوع هو الواقع بحكم أنه أصدق "إنباء من الخطب". فعلى مدى حوالي ستين سنة من الاستقلال، كم عدد الفنانين المغاربة الذين وصلوا إلى مستوى العالمية؟ بل حتى على المستوى الوطني ظلت النجومية نسبية للغاية ومحدودة جغرافيا، بما أن حتى من ظلوا يعتبرون روادا ورموزا في المجال الفني لعقود، هم مدينون بالدرجة الأولى للإذاعة والتلفزة الرسمية التي ظلت على مدى سنوات تعلي السقف وتضيق المنافذ أمام الباحثين عن النجومية السريعة، وهو ما حمى نسبيا الذوق العام من الانزلاقات المبكرة، لكن كل المتاريس سقطت عندما قرر إدريس البصري تحويل الإعلام العمومي إلى أداة ل"النشاط"... ليزداد الأمر سوءا مع ظهور الفضائيات وإسهالها الشرقي والغربي، قبل أن تنزل الكارثة محمولة على ظهر "اليوتوب" بحيث فتح المجال أمام الجميع دون معايير أو شروط (سينيا على سبيل المثال).. وقبل أن تنخرط تلفزاتنا وإذاعاتنا الخاصة والعامة في سباق محموم على الإسفاف والرداءة، تحولت معه البلاطوهات والاستديوهات إلى مجرد فضاءات لا تختلف كثيرا عن سرادقات الأعراس الشعبية ومسارح الملاهي الليلة الرخيصة.. وفي كل الأحوال، فحتى هذا ليس اكتشافا، بل هو مجرد كشف غطاء عن ازدواجية عاشها المغرب وتعايش معها المغاربة طيلة عقود، ففي الوقت الذي كان فيه الإعلام الرسمي يعطي الانطباع برقي الذوق العام عبر التركيز على الطرب الأندلسي، وعلى أسماء معدودة من المواهب المبدعة في مجال الغناء الكلاسيكي الأكاديمي (بلخياط، الدكالي، اسماعيل أحمد، البيضاوي، الراشدي، الحياني، عزيزة جلال، نعمية سميح، الإدريسي....)، كان هناك ذوق عام آخر يتشكل خلف الواجهة البراقة، يستهلك كل ما يندرج تحت مسمى "الشعبي" بغثه وسمينه.. وتعايش "الذوقان" الظاهر منهما والخفي، لكنهما تصادما في النهاية.. فاختفى الفن المحكوم بقواعد أكاديمية واستولت "اعطيني صاكي"..و"انت باغية"...على الساحة.. أو على الاصح، على ما تبقى منها مما فضل عن فضائيات "هز يا وز".. ويوتوب "سينيا".. في المجال الفني هناك قاعدة تقول إن المحلية هي بوابة العالمية، ولكن الذي حدث هو أن كثيرا من فنانينا اكتفوا ب"محلية ضيقة" جدا، بما أن الهدف الأساسي هو المال والشهرة، وهو هدف "مشروع" في كل الأحوال، بما أن الفن تجارة وصناعة في نهاية المطاف، والفنان محتاج إلى "تدوير" آخر الشهر كغيره من شرائح "طالب معاشو"...ولهذا، فبعدما كان أقصى ما يحلم به الفنان المغربي "المبدع" هو السفر إلى القاهرة، بحثا عن فرصة لمعانقة الأضواء، أصبح أقصى ما يحلم به اليوم هو عقد عمل في ملهى ليلي أو فندق في عين الذياب أو مازغان أو مراكش أو اكادير، إلى جانب عائدات "الأعراس" والحفلات "الخاصة جدا".. علما أن القبلة اليوم أصبحت -بالنسبة للباحثين عن المجد خارج الحدود- هي دبي، وغيرها من حواضر الخليج التي تستقطب تحديدا "الباحثات" عن شهرة من نوع خاص.. وتحديدا من خريجات برامج المواهب التي تعرضها فضائيات خليجية.. باختصار، المغرب لم يكن أبدا بلد إبداع فني أو ثقافي، بل كان دائما عالة على المشرق من جهة و على فرنسا من جهة أخرى في هذا المجال، ولهذا أسباب كثيرة، منها أن المواهب الحقيقية لا تجد من يتعهدها، كما أن الإبداع لم يكن أبدا ضمن الأوراش ذات الأولية بالنسبة لصناع القرار السياسي، فضلا عن أن طريق الفن يمر في أحيان كثيرة عبر "غرف النوم"، دون أن ننسى أنه في الأوضاع المقلوبة، دائما يكون الفائزون هم أنصاف الموهوبين والمتسلطون والدخلاء والمترامون..ولهذا كلما ظهر صوت اليوم إلا ووضع نفسه تحت تصرف الفضائيات المشرقية، التي لا ترى أنها ملزمة بخدمة لا اللهجة ولا الموسيقى المغربية.. بطبيعة الحال، فترى فنانين مغاربة يجاهدون لإتقان لهجات محلية.. لكن لم كل هذه الجلبة وكل هذا الضجيج؟ هل الفن وحده الذي يعاني من الإسفاف؟ وكيف حال التعليم والسياسة وغيرهما؟ ألا تعاني هذه القطاعات من الانحدار والرداءة غير المسبوقة، التي تتجاوز لغة "اعطيني صاكي" بمراحل؟ بكل أسف، لا نحتاج للتذكير بأن تعليمنا نزل إلى ما دون الحضيض، وفي أخبار "مدارسنا" ما يغني عن الوصف والتفصيل.. أما السياسة، فلا شك أن من يتابع ما يجري على الساحة، لا يملك سوى الترحم على الشيخ محمد عبده الذي قال قبل أكثر من قرن "لعن الله السياسة وساس ويسوس وسائس ومسوس، وكل ما اشتق من السياسة فإنها ما دخلت شيئًا إلا أفسدته"، ومن المؤكد أنه لو عاش في مغرب اليوم، وتابع "هزليات" الثلاثي "غير المرح" الذي يصنع الفرجة هذه الأيام، لخلع جبته وعمامته ولرقص على أنغام "انت باغية واحد" أو "اعطيني صاكي"..من فرط "الإفساد" الذي تسببت السياسة والسياسيون.فحتى إذا سلمنا بأن رئيس الحكومة السيد بن كيران "رفع عنه القلم" و"لا حرج عليه"، بما أنه لم يكن يحلم حتى بمنصب مدير أو سفير فوجد نفسه فجأة على رأس الإدارة المغربية، وفي موقع لم يسبقه إليه أحد على مدى أكثر من خمسة عقود. وسلمنا أيضا، بأنه لا حزب العدالة والتنمية، ولا مناضلوه كانوا يتخيلون أن يحدث الذي جرى سنة 2011، ووجدوا أنفسهم فجأة في مواقع لم يستعدوا لها ولو في عالم الحلم، وهو ما يجعلهم يتمتعون ب"ظروف التخفيف"، خاصة وأنهم ليسوا وحدهم مسؤولين عن الفشل في التواصل بأسلوب راق، يتدرج حسب المقامات ونوعية المخاطبين، ولكنه في كل الأحوال لا ينحدر إلى مستوى الإسفاف الذي لو تم تلحينه لأنتج شيئا شبيها ب"اعطيني صاكي"..إذا سلمنا بهذا، وهو لا يعفي رئيس الحكومة وقيادة حزبه من المسؤولية عن المشاركة في كورال "اعطيني صاكي" في مجال السياسة، أي عذر يبقى للحزبين العريقين التقليديين، أي الاستقلال والاتحاد اللذين صنعا الحدث فعلا في السنوات القليلة الماضية بخطاب لم يكن معهودا، ولا مقبولا حتى في لحظات المواجهة الطاحنة مع آليات القمع والتزوير والتحكم؟ لا أحب الخوض هنا في حكاية من جاء بالقيادتين الحاليتين ولأي هدف، فذلك موضوع متشعب لا يتسع له هذا المقام، لكن أيا كان الهدف، فقد أدى إلى عكس ما كان متوقعا.الدليل على ذلك، أنه بدل أن يستغل أمين عام حزب الاستقلال فرصة حواره مع قناة "العربية" مثلا ليقدم نفسه كزعيم وطني مستعد لقيادة حكومة، وليؤكد أنه لم يصل إلى موقعه صدفة أو بفعل فاعل، -بدل ذلك- تحول إلى فرجة، وأكد للمرة الألف أنه يعاني مشكلة شخصية اسمها "بن كيران" الذي لا يفارق خياله لا في اليقظة ولا في المنام. أما هلوسات "التنظيم الدولي" وغيرها من المصطلحات المستعارة من قاموس الإعلام المصري، فقد كشفت فقط أي نوع من المعارضة يمارس حزب الاستقلال حاليا.. وهو ما اختزله السيد شباط حين تنبأ بأن مصير بن كيران سيكون كمصير "أخيه مرسي"، وهذا كلام يصلح أن يقال في "قعدة حزبية" لانتزاع التصفيق من شلة الانس التي أصبحت تحتل الواجهة في الحزب الذي كان عتيدا، وليس على شاشة قناة أجنبية يتابعها ملايين على امتداد الوطن العربي.ويبدو أن السيد شباط تذكر في لحظة ما أن مرسي أطيح به بانقلاب عسكري فحاول "الترقيع" بالقول إن الإطاحة ببن كيران ستتم عبر صناديق الاقتراع.. قبل أن يتحدث عن "حصار" منزل رئيس الحكومة بمختلف الأجهزة، وهو ما يكشف -في الحد الأدنى- أن من أصبح يوصف ب"الاستاذ" ويكتب مقالات رأي على صفحات جريدة "العلم" لا يزن الكلمات التي يطلقها، أو لا يعرف معناها أصلا. ولا يحتاج الأمر إلى الاستعانة بخبراء علم النفس، لتحليل شخصية "الزعيم"، الذي كشف خلال النصف ساعة التي استغرقها "حواره" مع القناة السعودية، أن الخطر الحقيقي الذي يتهدد المغرب هو هذا النوع من السياسيين..أما الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، فقد اختار طريقه بعد "تطهير" حزب القوات الشعبية من "الرأي الآخر"، بالخوض في مواضيع مثيرة من قبيل الإرث والحجاب. القصد الواضح من هذه المناورة، هو استجداء رد فعل من "الملتحين" لرفع العقيرة وإعلان النفير داخل الصف "التقدمي" لمواجهة المد الظلامي وغير ذلك من مفردات الخطاب "البايت" الذي لم يعد له جمهور في هذا الزمن.لكن الخطير هنا هو أن السيد لشكر يخلط بين الدين وحزب العدالة والتنمية، بمعنى أنه يظن أنه بخوضه في هذه المواضيع الشائكة، يستفز قبائل "الإسلاميين" وفصائلهم، والحال أنه يستفز شرائح كثيرة في بلد لم يعرف طبعا الدين والتدين على عهد الحكومة الحالية، ولم يدخل مواطنوه الإسلام على يد "نبي" اسمه بن كيران.. وبطبيعة الحال، حين لا يكون الخطاب السياسي مبنيا على قناعات وعلى رؤية واضحة، فإنه يقود صاحبه إلى الكثير من الزلات، كما حدث مع قصة "التشخشيخ"، فأن تصدر هذه الكلمة في تيزنيت تحديدا، ومصحوبة بالحركة التي قام بها السيد لشكر بيديه عند التفوه بها، فإن ذلك لا يترك مجالا لأي تأويل أو تفسير أو تدارك أو تبرير..ولعل أصدق تحليل هنا أيضا على وضع حزب "القوات الشعبية" في عهده الجديد، هو ذاك الذي رسمه بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي تعليقا على صورة يظهر في مقدمتها وجهاء الاتحاد الاشتراكي الحاليون وخلفهم لوحة عملاقة مركبة من وجوه القيادات التاريخية الراحلة :بن بركة.. بن جلون.. بوعبيد.. حيث تساءل بعض الرواد.. ترى ماذا سكون موقف الأموات من الأحياء لو أتيحت لهم فرصة الكلام؟ خلاصة القول.. المغرب في خطر، لأن رئيس الحكومة أهدر وقتا طويلا وهو يتدرب على إتقان "علم الكلام"، ولأن معارضيه الرئيسيين عوض أن يجبروه على الارتقاء بخطابه السياسي، حاولوا جره إلى الأعماق..ولهذا لو تكلمت السياسة.. لقالت "اعطيني صاكي.. نمشي فحالي"..وليس "اعطيني صاكي.. باغيا نماكي"..