حلقة اليوم الثلاثاء، من برنامج "حكايات من زمن فات"، يُقدمه لكم "اليوم 24″، يوميا، خلال شهر رمضان، عن أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظماء، وهو مُصعب بن عُمير. كان رضي الله عنه معروف عنه قبل الإسلام بأنه أكثر شباب قريشٍ تدللا ورقة ووداعة وثراءً، حيث نشأ منعمًا في أسرة ثرية، وبيت يزخر بالثياب الفاخر الغالي، والعطور النادرة، وحين سمع بأمر الإسلام، ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وأعلن إسلامه، إلا أنه أخفى إسلامه عن أمه حتى لا يُحزنها، ولكن سرعان ما أبلغها أحد المشركين بأمره. فقامت بحبسه في المنزل أيام طويلة، حتى يرجع عن دينه، إلا أنه استطاع أن يهرب منها ويُهاجر مع بعض الصحابة إلى الحبشة وتبدأ قصته مع الإسلام، وسرعان ما تتبدل حياته من المعيشة المُرفهة إلى الزهد والتقشف، ويراه صلى الله عليه وسلم ذات يوم وقد لبس جلد كبش، فقال صلى الله عليه وسلم: انظروا إلى هذا الذي قد نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبويه يغذيانه بأطايب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلة شراها أو شريت له بمائتي درهم، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون. وبعد أن عاد رضي الله عنه من الحبشة كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهمة هامة وجليلة، وهي أن يكون سفيره صلى الله عليه وسلم إلى معقل الإسلام الأول وهي "المدينةالمنورة"، فبعد أن أسلمت مجموعة من المدينة خلال موسم الحج، ورجعوا إلى أهلهم يدعوهم إلى الإسلام، وجدوا أن كثيرا من أهلهم استجابوا لدعوة الحق، واطمأنت قلوبهم إليه، فأرسلوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يبعث إليهم رجلاً يدعو الناس بكتاب الله ويعلمهم أمور دينهم، فأرسل صلى الله عليه وسلم مصعب الخير كما كان يُلقبه، فنزل عند الصحابي أسعد بن زرارة فجعل يدعو الناس سرًّا ويفشو الإسلام ويكثر أهله وهم في ذلك مستخفون بدعائهم، حتى جاءه سعد بن معاذ ذات يوم غضبانا بعد أن علم بما يفعل، وأراد أن يطرده من المدينة، فعرض عليه مُصعب الإسلام وقرأ عليه {حم*وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ*إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} فأسلم سعد ورجع إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام فأسلم أغلبهم وأسلم أشرافهم، وكسرت أصنامهم فكان المسلمون أعز أهلها وصلح أمرهم ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفى موسم الحج التالي قدم من المدينة سبعون مسلمًا من بينهم امرأتان، ومعهم مُصعب، فبلغ أمه أنه قد قدم، فأرسلت إليه وقالت: يا عاق أتقدم بلدًا أنا فيه لا تبدأ بي، فقال: ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما حدث في المدينة، ذهب إلى أمه ليُسلم عليها، فقالت: إنك لعلى ما أنت عليه من الصبأة بعد، فقال: أنا على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام الذي رضي الله لنفسه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وعرض عليها الإسلام فرفضت وأبت إلا أن تبقى على دينها، وقاتل مُصعب رضي الله عنه بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، حتى جاءت غزوة أُحد وكان مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين في غزوة أحد، إذ لما كانت غزوة أحد، سأَل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يحمل لواء المشرِكين؟"، فقيل: بنو عبد الدار، فقال صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالوفاء منهم، أين مصعب بن عمير؟"، فقال: ها أنا ذا، فقال صلى الله عليه وسلم: خذ اللواء، فأخذه مصعب وتقدم به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما بدأت المعركة جاء أُبيّ بن خلف مُسرعاً نجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتُله، فاستقبله مصعب وقاتله، وأخذ يحول بنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تمكن من فضرب جه أُبيّ، ثم طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع وهو يخور، حتى أقدم عليه ابن قميئة الليثي وكان فارس، فضرب يده اليمنى فقطعها، فقال مُصعب {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ثم أخذ اللواء بيده اليسرى، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}، فضربه ابن قميئة مرة ثالثة برمح فوقع رضي الله عنه شهيدا. وبعد المعركة، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، ووقف بجواره وقرأ {رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنهُمْ مَنْ قَضى نحبَهُ وَمِنْهُم مَن يَنتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبدِيلا}، أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأْتوهم وزوروهم وسلموا عليهِم، والذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه"، ثم نظر إلى مُصعب وقال: لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أَرق حلةً ولا أَحسن لمّةً منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة"، وكان رضي الله عنه ابن أربعين سنة.