أحيانا تبدو الحقيقة صادمة؛ خاصة إذا وضعناها تحت مجهر الفن، ولو أبصر كل واحد منا ذاته جليا في مرآة الآخر، لصلحت الكثير من العيوب، والفن الجاد هو الذي يدعونا بالإضافة إلى تحقيق المتعة، إلى إعادة التفكير في الجاهز والمألوف والمسلّم به، وتحريرنا من زلاتنا وسلبياتنا، فهو حسب أرسطو نوع من التطهير الذاتي. فتنتفض جمعيات وهيئات لرفع دعاوى قضائية في حق مسلسلات وأفلام؛ بتهمة تصوير شخصيات وأحداث واقعية نحياها وألفناها، تم وضعها في قالب فني كوميدي أو تراجيدي، بشكل مستفز لها، كمؤشر إيجابي على مهارة أدائها للأدوار، فتبادر «الهيئة الوطنية للعدول» بالمغرب لرفع دعوى ضد مسلسل «بنات للا منانة»، بتهمة الإساءة لمهنة العدول تحركها «غيرتها المزعومة» على مهنتها و»فروسيتها الدينية»، من خلال شخصية «الوالي» التي قد نجد شبيها له في الواقع، لكن هذا لا يعني أن كل «عدول» يتسم بالتلاعب واستغلال الدين لقضاء مآربه الشخصية، وإن كانوا للأسف كثر، بل هو تصوير لشخصية واقعية سلبية، وتنبيه الإنسان البسيط إلى فئة معينة من «رجال الدين»، التي تستغل سلطتها الدينية للإيقاع به، مستغلة طيبوبته وقوة وازعه الديني وبساطة ثقافته الدينية. ودعوى أخرى ضد الكبسولة الفكاهية «لكوبل»، من طرف «جمعية محاربة التدخين»؛ بتهمة «الدعوة إلى التطبيع مع السيجارة»، من خلال شخصية «كبور» الذي أداها الفنان الكوميدي «حسن الفذ»، بانسجام متقن مع الفنانة المحبوبة «دنيا بوتازوت»، عمل لم يدعنا في ثلاث دقائق سوى للتطبيع مع الضحك، ببساطة وبدون إطالة أو ترهل، إيمانا منه أن «الإيجاز هو روح الكوميديا»، حسب شكسبير، وبإبحار في ذاكرته وخياله الواسع الذي يختزن تفاصيل وإيماءات وحركات... شخصيتي «كبور» و»الشعيبية» القرويتين المغربيتين، وعوض الوقوف عند سيجارته التي ينفث فيها «كبور» غضبه وفراغه وهواجسه وقلقه..، وسجن فننا المغربي في كهف مظلم أحادي التأويل، كان من الأفضل الوقوف عند قضايا أخرى كمنطق الهيمنة والاستغلال والنفعية التي تطال العلاقات الزوجية في البوادي، والفراغ الذي يئن تحت سطوته الرجل القروي المسن، وطيبوبة المرأة القروية وصبرها وتفانيها من أجل حياة زوجية مهددة فيها على الدوام بالطرد والطلاق... أخشى أن أتهم أنا أيضا بالتطبيع مع السيجارة، لأستحضر مشهدا يقول فيه «كبور»: «كالو الكارو كيدير السرطان ماشفنا والو»، لأقول أن سيجارة «كبور» لن تقتل، الذي يقتل هو واقع قروي ضاج بالألم والفراغ والفقر والجهل والأمية وهيمنة السلطة وضعف البنية التحتية...، فأصل حتى ضحكنا هم وغم، فنحن نضحك من قلوبنا هربا من ألم حقيقتنا، لهذا عرّف أرسطو الكوميديا عبر التراجيديا، ونختم عادة نحن المغاربة ضحكنا بقولة «الله يخرج هذا الضحك على خير»، فهل نسي «حسن الفذ» أن يفتتح بها عمله؟