يُقصد ب «القدوة» الاقتداء، و»الإنسان القدوة»، هو الذي «يُقتدى ويُحتذى به من حيث جعله أسوة ومثالا ونموذجا لسلوكيات وتصرفات الآخرين». وفي «لسان العرب» يُقال: «القدوة لما يُقتدى به». أما في الكتب المنزلة، فالإشارات كثيرة، والتشديد بالغ على «القدوة» و»الاقتداء» وما يدخل في حكمهما. لاشك أن فضائل القدوة إذا كانت حسنة جمة وعظيمة، أما إذا كانت سيئة، فالأضرار بقدر رذائلها. ولأن القدوة بهذه الأهمية والخطورة في الآن معاً، فنجدها حاضرة أينما حل الإنسان وارتحل.. نجدها في الدين، وفي العلم، كما نجدها في السياسة والثقافة والفكر، ونلمسها في الأسرة والدولة والمؤسسات..إنها في كل زمان ومكان. يُفترض في القدوة أن تكون حالة مشتركة بين الناس، يتقاسمون قيمها، ويجنون ثمار ممارستها..غير أن الناس فرق وشيع، ومصالح مختلفة، ولهذه الأسباب تنحصر القدوة في أشخاص متمتعين بخصائص تؤهلهم لأن يكونوا نماذج للاقتداء والاحتذاء، ومنها تحديدا: الصلاح، أي السعي قولا وفعلا إلى تحقيق ما يفيد الناس ويخدم أحوالهم.. والحال أن «الصلاح» لا يتحقق إلا بالإخلاص لما عُهد للإنسان القدوة القيام به.. والإخلاص لا يتأتى دون فصل الذاتي والشخصي عما هو عام ومشترك، وترجيح الثاني على الأول. تُضاف إلى الصلاح وتتكامل معه خصلة «حسن الخلق»، أي أسلوب التعامل مع الناس، وطرق التفاعل مع أحوالهم.. ولا يتردد عاقل في التشديد على أن هذه الخاصية بالغة الأهمية في التحول إلى قدوة حسنة، وبدونها تكون القدوة مفسدة. أما الخصلة الثالثة في القدوة فتتجلى في «ربط القول بالفعل»، وعدم الاكتفاء بالقول دون الفعل. فالناس تصدق الأقوال بالحكم على أفعالها.. وإذا كان ميزان الأقوال مختلاً على حساب الأفعال، تسقط القدوة عن صاحبها، وتتحول إلى قدوة سيئة. حين يتأمل المرء في هذه الخصائص وغيرها، وينظر بإمعان إلى ما يجري في مجالنا السياسي المغربي، والحزبي تحديدا، يشعر بحزن كبير لما آلت إليه الأمور، ويُدرك كم هي الحاجة إلى قدوة حسنة، تستثمر المؤهلات الكثيرة المتاحة، لتصنع تاريخا أكثر عقلانية، وأعمق فعالية وإنجازا. بل يحار، المرء وهو يتابع «النقاشات» داخل النخبة السياسية وما بين أحزابها، وقد لا يصدق حجم التراجع الذي طال التفكير في السياسة والشأن العام في بلادنا. ليس الاختلاف عيبا، فهو من الحسنات الطيبات، غير أن للاختلاف شروطا ومتطلبات، أولها إعقال اللسان، وتهذيب الكلام، واحترام الشعور، والتركيز على المطلوب، ومقارعة الأفكار بالأفكار. ثم إن العمل البشري، وبحسبه كذلك، يحتاج إلى تكاثف الجهود وتكاملها. لذلك، يُخطئ من كان يعتقد أن الأغلبية تقدر على تغيير وجه المغرب نحو الأفضل لوحدها دون المعارضة، وتُجانب المعارضة الصواب إن هي استمرت في مناكفة الأغلبية والتقليل من أدائها.. فالمطلوب الخروج من مأزق التراشق بالألفاظ، والتلاسن بدون جدوى.. لأن الاستمرار في هذا الطريق غير السالك، سيُعمّق تقهقر صورة العمل الحزبي في بلادنا، ويوسع دائرة الممتنعين عن الاهتمام بالشأن العام، وفي المحصلة العامة يضعف العلاقة بالسياسة بشكل عام. ثمة نماذج كثيرة في التاريخ والحاضر أثبتت الأدوار المفصلية التي لعبتها القدوة الحسنة في تغيير وجه الكثير من المجتمعات، ونقلت شعوبها نحو الأفضل.. وأمام المرء أن يستحضر مثالين بارزين، ويتساءل: هل كان في مكن «ماليزيا» الانتقال مما كانت عليه إلى ما أصبحت عليه، وتحديدا في أحد أكثر القطاعات استراتيجية، أي التعليم، لو لم تتوفر لها قدوة حسنة وذكية من قبيل «محمد ماهتير»؟ وهل كان في مستطاع تركيا ما بعد 2002 و2003 الانتقال من وضع إلى آخر أكثر تقدما لو لم يقدم قادة «حزب العدالة والتنمية» صورة مقنعة عن أدائها، ونجاح سياساتهم؟.. أعرف جيدا أن السياقات مختلفة في هذه البلدان وفي بلدنا، لكن أعي تمام الوعي أن القدوة الحسنة تلعب دورا طليعيا في كل مكان، وفي أي زمان.