سيتذكر المغاربة، أكثر من غيرهم من المسلمين، رمضان هذه السنة طويلا، وسيعتمل في دواخلهم ما سيأتي به من قيود لم يعهدوها في غيره من رمضانات الأعوام الخوالي. أولها، أنه سيرغمهم، كلهم، على الاعتكاف في بيوتهم، من بداية الشهر، وليس حتى العشر الأواخر، كما اعتادت القلة منهم، أو كما اعتادت الأغلبية الساحقة الاعتكاف في المقاهي والشوارع والحدائق العمومية من الفطور إلى السحور. لقد انطبع شهر رمضان بعادات أهل المغرب وطقوسهم، مثلما انطبع بفهمهم وحساسيتهم وعلاقتهم الخاصة بالتدين. ولعل الفقهاء قد سبقوا نظراءهم السوسيولوجيين في رصد مركزية الصيام، الاجتماعية، عندنا، بما لا يخلو من طرافة وتندر في التقاط درجات التدين ومفارقاته لدى باقي الشعوب المغاربية التي قسمت أركان الإسلام الخمسة بين بلدانها الخمسة؛ فجاء الصيام من نصيب المغاربة، لذلك، تجدهم يتسامحون مع بعضهم البعض في التقصير في كل الأركان باستثناء صوم رمضان، فيما يتساهل الموريتانيون مع المفطر في رمضان ومع المقصر في باقي أركان الإسلام، لكنهم يتشددون مع تارك الصلاة. أما الجزائريون، فيولون أهمية قصوى لفريضة الحج ويُعلون من قيمة الحجاج، وهم أكثر أهل الغرب رحلة إلى الشرق، فيما لا يتسامح الليبيون مع المقصر في إخراج الزكاة، ويتسامحون مع تاركي باقي الأركان. أما التونسيون، فيكتفون من الأركان الخمسة بشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإن كان هذا التمثل يعكس صورة الحبيب بورقيبة وليس الشعب التونسي. وإذا كان المتن الفقهي والشعري والغنائي عندنا قد حفل بأشكال من التغني بشهر رمضان وفضائل الصيام، فإن أشهر ما تناقله المغاربة بشكل واسع، ويؤكد مركزية ركن الصيام وتقدمه على ما سواه من أركان الإسلام عندهم، هو قصيدة «الرعد» التي كتبها الشاعر محمد بنسليمان، وتغنى بها كل شيوخ الملحون وهواته. في هذه القصيدة، اختزل الشاعر فضائله الإيمانية في فضيلتين اثنتين؛ أنه لم يسبق أن كان منافقا، ولم يحدث أن أفطر في رمضان، حين قال: «صَافي من لعيوب ولا أنا شي صاحب جْرايم.. عمري ما نافقت إنسان ولا كليت رمضان»، إلى أن وصل إلا اللازمة الشهيرة: «أصاحْ زارني محبوبي يامس وكنت صايم.. شَهْد قطعت وجنيت الورد قالوا كليت رمضان». لقد حكى لي الراحل امحمد بوستة، بحضور الصديق حسن أوريد، حكاية يمكن أن تساعد في فهم كيف تطورت مركزية رمضان لدى الحسن الثاني، الذي وعى مبكرا أهمية الدين في توطيد ركائز عرشه؛ ففي صباح اليوم الموالي لإجراء محمد الخامس العملية الجراحية التي توفي إثرها، والذي صادف 10 رمضان من سنة 1961، ذهب بوستة رفقة عبد الخالق الطريس للاطمئنان على صحة الملك. وفجأة خرج الأمير الحسن راكبا سيارة «جيب» وطلب من بوستة مرافقته. عندما تقدمت السيارة قليلا، أخرج الأمير سيجارة وأشعلها، ثم سحب منها نفسا والتفت إلى بوستة قائلا: «غادي نرد هاد النهار»… بعد توليه الحكم، سوف يجعل الحسن الثاني من شهر رمضان واجهة أساسية لمواجهة معارضيه، خصوصا بعدما أطلق الدروس الحسنية في رمضان 1963، والتي اعتبرت ردا على انتشار الأفكار اليسارية والناصرية التي كانت مهيمنة، أكثر من كونها حالة ورع انتابت ملكا معروفا عنه تشبعه بالذهنية الكارتيزية والثقافة الفرنسية. لقد علق عبد الله العروي على هذه العقلية الإحيائية عند الملك الراحل بقوله: «يمكن توظيفها أكثر من الإيمان بها». وإذا كان لنا أن نحور ما سبق أن قاله محمد عابد الجابري عن أن السياسة في المغرب مورست، في جزء منها، من خلال القضية الفلسطينية، يمكن لنا أن نقول إن بعض السياسة عندنا مورست، أيضا، في مرحلة من المراحل، من خلال رمضان، حيث إن الإسلاميين، وقبلهم السلطة، ارتكزوا في جزء من صراعهم مع اليسار، في الجامعة بالأساس، على ترويج فكرة أن اليساريين يفطرون في رمضان، والانتهاء إلى خلاصة أن «من يعادي عقيدة شعب، لا يمكن أن يدافع عن حقوقه». لذلك، عندما خرجت حركة «مالي»، في رمضان 2009، داعية إلى الإفطار العلني في رمضان، فإن من تصدى لها، وبقوة، لم يكن شيخا سلفيا أو قياديا في العدل والإحسان أو العدالة والتنمية، بل كان أمينا عاما لحزب رفع شعار الحداثة، وربط تأسيسه بمواجهة الإسلاميين، حيث كتب محمد الشيخ بيد الله مقالا قال فيه: «هذا الحادث الشاذ، الذي يحمل في طياته بذور الفتنة الملعونة (والفتنة أشد من القتل، ولعن الله موقظها)، ويخدش شعور المغاربة المسلمين بعنف، يأتي كرونولوجيا بعد حلقات متتالية من المحاولات اليائسة للإساءة إلى الثوابت الوطنية المقدسة». وكأن بيد الله، وهو يرد بعنف على من أخرجوا ساندويتشاتهم نهارا جهارا في محطة القطار بالمحمدية، كان ينفض التهمة عن حزبه الذي ضم يساريين سابقين، ويقول إن رفضنا الإسلاميين لا يعني قبولنا «رافضي الإسلام». إن هذا «الرمضان» الإيماني والإيديولوجي لم يكن ليكتمل دون طقوس احتفالية جماعية شعبية، هي التي سيفتقدها المغاربة مع رمضان عام كورونا، وبالتأكيد سيكون لها تأثير، بصرف النظر عن طبيعته، على رمضانات المغاربة المقبلة.