في سنة 1830؛ قرر شارل العاشر أن ينتزع الجزائر من الأتراك. ثم إن بدايات هذا الغزو سوف تستقر في مخيال الجزائريين إلى الأبد. في ما يلي استرجاع للتاريخ المجهول لاحتلال أكبر بلد في إفريقيا. على مدى مائة واثنين وثلاثين سنة، ظلت الجزائر جزءا من الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية. غير أن تاريخ تلك الحقبة الذي بقي الحديث عنه محرما؛ واصلت الكتب والأفلام إخفاءه، حيث تطرقت فقط إلى حرب التحرير وحدها. وهكذا، تعود «لونوفيل أوبسيرفاتور» إلى رهانات تلك الجزائر الفرنسية مع المؤرخ «بنجامان ستورا»؛ المختص في المغرب العربي المعاصر، ورئيس متحف تاريخ الهجرة، الذي كتب، وشارك في كتابة، وأشرف على كتابة العديد من المؤلفات، التي من بينها «حرب الجزائر كما يراها الجزائريون». «لونوفيل أوبسيرفاتور»: لماذا هذا السكوت عن الجزائر المستعمرة، عن هذا القرن الطويل من الاحتلال الفرنسي؟ «بنجامان ستورا»: ظلت الجزائر الفرنسية لمدة طويلة جدا من الطابوهات المحرم الحديث عنها؛ ولم يُرفع السكوت عن تلك الحرب إلا في وقت متأخر، منذ حوالي عشر سنوات فقط. لكن ما نتج عن النزاع هو خلق حجاب آخر؛ كما لو أن جسامته منعتنا من المضي إلى أبعد مدى في ما وقع في ذي قبل؛ لو أن تاريخ الجزائر الفرنسية قد جرى اختصاره في حرب التحرير. مع أنه لا يمكن فهم أي شيء بخصوص حرب الثماني سنوات تلك دون الغوص في القرن التاسع عشر. فلا يمكن رواية التاريخ من آخر فصوله. إن انتفاضة «عيد القديسين» في الفاتح من نونبر 1954 («l'insurrection de la toussaint rouge») لم تندلع هكذا بشكل غامض بعد عقود من الوئام؛ كما يفهم ذلك جزء من فرنسيي الجزائر الذين يسمون ب«الأقدام السوداء» (Les pieds-noirs)، وكذلك بعض السياسيين الفرنسيين. «لونوفيل أوبسيرفاتور»: هل لاحظتم أن الإنتاج الأدبي والفني حول تلك الحقبة كان ضعيفا؟ «بنجامان ستورا»: بل لم يكن هناك الشيء الكثير. لنلقِ نظرة على السينما؛ التي هي بلا ريب الممثل الرئيس للمخيال؛ منذ الاستقلال، جرى إنجاز على الأقل حوالي العشرين فيلما عن الحرب؛ منها: «أن تكون في سنك العشرين في الأوراس»، «إليز أو الحياة الحقيقية»… وكلها عن حرب التحرير. لكن الأفلام الطويلة عن الاستعمار هي بكل وضوح أقل بكثير من هذا العدد. فالأمير عيد القادر، الذي هو واحد من أهم مقاومي الاستعمار، لم يسبق أبدا أن ذُكر، وكذلك المارشال «توماس بيجو»؛ قائد الغزو، لا وجود له. كم هي الأفلام التي أُنجزت عن تلك الفترة؟ «حصن ساغان» و«خيول الشمس»، ثم لا شيء. والشيء نفسه بالنسبة إلى الأعمال الأدبية؛ فكل من «آليكس جيني»، و«لورونموفينيي»، و«إيريك أورسينا»؛ قد كتبوا جميعا عن حرب التحرير (1954-1962)؛ فيما الحكي عن حقبة ما قبل ذلك بقي نادرا جدا. «لونوفيل أوبسيرفاتور»: استمرت عملية الغزو طويلا، وكانت صعبة؛ حسب قولكم… «بنجامان ستورا»: لقد كانت مرعبة ومميتة. كانت بدايتها بالسيطرة على ولاية الجزائر العاصمة في يوليوز 1830، واستمرت إلى سنة 1871 مع قمع ثورة الأخوين المقراني، في منطقة القبايل الكبرى، بل إنها استمرت حتى سنة 1902، على طول الحدود، مع إحداث المناطق الترابية في الجنوب، أي أكثر من نصف قرن. يجب في هذا الصدد قراءة مؤلَّف «فرانسوا ماسبيرو»: «شرف سانت-آرنو» الصادر عن منشورات «بلون» سنة 1993، وهو سيرة ذاتية لهذا الضابط من خلال رسائل هلوسة كان يكتبها لخطيبته. يقول في بعضها: «ذراعي تؤلمني، كم قتلت من الناس»، «لقد دخلت داخل إحدى الأزقة، كنت ملطخا بالدماء حتى حزامي»، إن الغزو يدمر صورة وضع قائم كان مقبولا، تعايش سلمي و«هادئ». وبسبب هذا كذلك يجري السكوت عنه. إن المؤرخين يعتقدون أنه ما بين المعارك، والمجاعات، والأوبئة قد توفي عدة آلاف من الجزائريين. فساكنة الجزائر التي كان يقدر عددها بمليونين وثلاثمائة ألف نسمة سنة 1856، تقلصت في سنة 1872 إلى مليونين ومائة ألف نسمة. فالرفض والثورات وجدت منذ البداية. نحن هنا في فرنسا لا نقدر إلى أي درجة تعتبر شخصيات المقاومة، من أمثال الأمير عبد القادر أو الإخوان المقراني، من المفاخر الوطنية الجزائرية. إن ذكرى الغزو ترويها الأجيال للأجيال؛ إنها ذكرى لم تنمحِ أبدا. «لونوفيل أوبسيرفاتور»: إرسال أكثر من مائة ألف جندي إلى الجزائر، وإنفاق ملايين الفرنكات؛ لماذا غزو الجزائر كان رهانا لهذه الدرجة في القرن التاسع عشر؟ «بنجامان ستورا»: كان الأمر يتعلق بهزم البريطانيين في البحر الأبيض المتوسط، وكذلك توسيع الإمبراطورية في اتجاه الجنوب والأمريكيتين. والجزائر هي مجال ترابي ضخم، الأكبر في إفريقيا؛ إنها مكان «نموذجي» للتجارب، وللنمو الاقتصادي. إن بعض أتباع تشارلز فورييه (1772-1837)، وبعض أتباع مذهب «سان-سيمون»؛ المهووسين باليوتوبيا الاشتراكية؛ سوف ينشئون هنالك تجمعات، ثم إنه الشرق على مقربة من فرنسا؛ على بعد أقل من يوم في الباخرة؛ سوف يعبر الرسامون البحر الأبيض المتوسط بسهولة: «أوجين فرومونتان»، «دولاكروى»، «جوستاف غيومي»، الذي رسم بؤس قسنطينة، و«هوراس فيرني» الذي تصف إحدى لوحاته السيطرة على قلعة الأمير عبد القادر بعد معركة الزمالة سنة 1843. وهناك كذلك الكُتاب؛ «تيوفيلغوتيي»، و«جوستاف فغلوبير»، و«غيجوموباسان»… إن غرائبية الشرق آسرة. «لونوفيل أوبسيرفاتور»: هل أسهم الاستعمار في عظمة فرنسا؟ «بنجامان ستورا»: إن الفكر الاستعماري أسهم في صنع القومية الفرنسية؛ فما هي فرنسا في الواقع؟ إنها على الخصوص إمبراطوريتها المستعمرة. وعندما يوجه أي نقد إلى الاستعمار، فإنه نقد موجه كذلك إلى القومية الفرنسية؛ التي يعبَّر عنها منذ البدء بتأسيس الجيش الفرنسي لإفريقيا في ذكرى الإرث النابوليوني. إن العديد من جنرالات الغزو الاستعماري سبق أن شاركوا في حروب نابوليون، خصوصا حرب إسبانيا سنة 1806، وبالنسبة إلى البعض منهم، مثل «بيجو»؛ سوف يستلهمون من الثورة الفرنسية ومن الفرق الجهنمية لحرب «فوندي» سنة 1793… إنه نوع من الامتداد للإمبراطورية النابليونية بشكل أو بآخر. فنابوليون الثالث حاول في سنة 1860 دون جدوى أن يغير من الوضع باقتراحه «مملكة عربية»، بتجميع نخب مسلمة. وسوف تكون هنالك كذلك فيما بعد محاولة لنموذج جمهوري، على منوال نموذج الأنوار. كان الأمر يتعلق بإقامة مدارس فرنسية، وإدخال الأهالي إلى «الحضارة»؛ أي إنشاء فرنسا أخرى هناك. «لونوفيل أوبسيرفاتور»: كيف بنيت هذه «الفرنسا الأخرى»؟ «بنجامان ستورا»: إنها مسألة قُربٍ وتوقيت تاريخي؛ الدولتان الأخريان، المغرب وتونس، سوف تكونان محميتين للإمبراطورية؛ فالماريشال «هوبير ليوطي»؛ أول مقيم عام للحماية بالمغرب في سنة 1912، سوف يُبقي على الملكية الشريفة، وسوف يشرك النخب المحلية. ولكن في الجزائر؛ فإن الجيش هو الذي تولى السلطة ما بين 1830 و1870. إن الاحتلال لم يقع بعد تفكير، ولم يجرِ تنظيمه؛ لقد حدث في إطار من الارتجال؛ بعد استسلام «القبائل العربية»، ومع انقسامات في صفوف العسكريين؛ إذ كان بعضهم يدعو إلى احتلال كامل، وآخرون يفضلون احتلالا جزئيا. لقد أصبحت الجزائر ووهران وقسنطينة، في ظل الجمهورية الثانية في سنة 1848، مقاطعات فرنسية. ولم تكن هناك أي من المستعمرات الأخرى تخضع لمثل هذا التنظيم. ومع الجمهورية الثالثة، سوف يتقوى الجهاز الإداري أكثر؛ وسوف يكون للمدن الساحلية عُمْداتها، وكنائسها، ومنصاتها للفرق الموسيقية، وممراتها المحفوفة بالأشجار. وسوف تنبت في الجزائر العاصمة عمارات على شاكلة العمارات الباريسية الهوسمانية (نسبة إلى والي باريس في عهد نابليون «البارون هوسمان»، الذي أشرف بأمر من نابوليون على عملية عصرنة باريس ما بين 1852 و1870) وسيزور رؤساء الدولة الفرنسية منذ نابليون الثالث الجزائر كما لو أنهم يزورون إحدى مقاطعاتهم الفرنسية. فكما قال فرانسوا ميتران، وزير الداخلية في شهر نونبر 1954: «الجزائر هي فرنسا، وفرنسا لن تعترف هناك بأي سلطة أخرى غير سلطتها هي». إن ما جرى في الجزائر، والذي لن يقع أبدا في الإمبراطورية مرة أخرى؛ هو هذه الرغبة المجنونة في ضم بلد كما لو كان امتدادا طبيعيا لفرنسا. «لونوفيل أوبسيرفاتور»: وكذلك كانت الجزائر هي المستعمرة الوحيدة، إلى جانب كاليدونيا الجديدة التي عرفت استعمارا «استيطانيا»؛ فعند الاستقلال، كان هناك ما يقرب من مليون فرنسي مقيم بالجزائر (أقدام سوداء) من بين تسعة ملايين جزائري. لماذا فضل الفرنسيون النزوح إلى الضفة الأخرى؟ «بنجامان ستورا»: إن «شعب» الأقدام السوداء مكون في الواقع من فرنسيين متباينين؛ ففي البدء كان هناك الجنود المزارعون؛ الذين كان الجيش يعهد إليهم بالأراضي الفلاحية المصادَرة. ثم جاء بعد ذلك السياسيون المنفيون (الجمهوريون، بعد انقلاب نابوليون بونابارت في سنة 1851، ثم المنتفضون الذين شاركوا في أحداث بلدية باريس سنة 1870، ثم جاء بعدهم الألزاسيون واللورينيون، بعد ضم هاتين المنطقتين سنة 1871)، وكذلك المهاجرون الفقراء الذين جرى توطينهم في الجزائر، وهم كادحون فرنسيون يبحثون عن شغل، وزارعو العنب المفلسون الذين دمرهم وباء فيلوكسيرا، وإيطاليون، ومالطيون، وإسبان، والعديد من الأجانب؛ كل هؤلاء جرى تجنيسهم بنص مرسوم 1889. هذا دون نسيان اليهود الذين كانوا موجودين هناك قبل الغزو الفرنسي، والذين سوف يصبحون فرنسيين بنص مرسوم كريميو سنة 1870. وهكذا كان في الجزائر سنة 1881 ما يقارب 181 ألف أجنبي، و35 ألف يهودي، و195 ألف فرنسي أتوا من فرنسا.